|
لوفيغارو وما عملية اغتيال شكري بلعيد، الناشط التونسي الحقوقي والمعارض الديمقراطي البارز قبل نحو شهر من الآن إلا مؤشر على تدهور مهول ومريب للمناخ السياسي والاجتماعي في البلاد، في ظل “الربيع العربي” وهيمنة العنف واستمراره لشهور طويلة في البلاد ليبلغ أوجه في عملية اغتيال بلعيد ما أدى إلى تشتت مؤلم للأوضاع وانقسام حاد في الشارع التونسي، وصدمة كبرى لقادة تونس الذين يريدون تجنيب البلاد من الانزلاق والغوص في وحول حرب أهلية شرسة طاحنة لا تحمد عقباها. وإذا كان صحيح أن حزب النهضة الحاكم في تونس، والمنبوذ من قبل شريحة واسعة من الشعب التونسي لا دور واضح له في حيثيات ثورة الياسمين فالصحيح أيضا أنه استفاد أيما استفادة من الظروف الاستثنائية التي تعترض البلاد، في هذه الأيام، ومن صورته المعارضة رغم تنكر النخبة السياسية لها، أملاً منه في إضفاء مصداقية على مبادئه، والتعرّج من ثم لاعتلاء ناصية السلطة في البلاد. في خطوة منه لتغليب منطق الموالاة على التلاحم السياسي والمصلحة العامة، وإيديولوجية العقائد على منطق الكفاءات الضرورية جدا لهذا البلد، في هذه الآونة، للنهوض من كبوته، يبدو أن حزب النهضة الإسلامي بجناحه المتشدد ممثلا بالشيخ راشد الغنوشي عاجز عن التقدم بأي اقتراح سوى محاولته إضفاء الصفة الأخلاقية على مشروع أسلمة وتطبيق الشريعة الإسلامية على المجتمع التونسي، علما أن الحزب لا يتمتع بأي قوة تجاه تفشي العنف على يد جماعة السلفيين ما يعجّل بالدفع بتونس وإغراقها في أزمة أخلاقية، اجتماعية، وسياسية، معها تستحيل السيطرة والإحاطة بآثارها ونتائجها في المدى المنظور والبعيد على حد سواء. فضلا عن افتقاره للقدرة والأهلية لتولي السلطة وإدارة شؤون البلاد الاقتصادية والاجتماعية يظهر حزب النهضة وكأنه شريك متواطئ في مسلسل العنف الذي ينفذه السلفيون وتحالفات أخرى ترمي إلى حماية “الثورة” والدفاع عنها، مع سعيه الحثيث لبث ونشر العنف والخوف في صفوف (النساء والجامعيين، والفنانين، والخمّارات وهدم المراكز الثقافية الأميركية والغربية، وتدمير الأضرحة ومجالات أخرى متعددة... وبالرغم من صور العنف الكارثية المتفشية في كامل الأراضي التونسية، لم يُصدر حتى هذه اللحظة أية إدانة رسمية لها، ما يزيد من الميل للإفلات من القصاص وتغذية الإحساس باللا مسؤولية الأمر الذي يقود بدوره إلى فقدان الأمن، ومفاقمة الأزمة الاقتصادية في ظل فرار وهروب السائحين والمستثمرين الأجانب، فاقتصاد تونس يعتمد في جزء كبير منه على اسثتمارات هؤلاء الفارّين رغم تقديم الحوافز المشجعة وتهيئة الظروف المناسبة لهم.. استحواذ شعور الخوف في نفوس المستثمرين الأجانب لمدة طويلة جراء تفاقم العنف في تونس، وتدهور الاقتصاد، ولجوء هؤلاء للفرار والنجاة بأنفسهم، ليتم تتويج هذه الأمور المأساوية جميعها بحادثة اغتيال شكري بلعيد، قد أفضت معا إلى انهيار البورصة في البلاد، ولتلج الأزمة الاقتصادية عنق الزجاجة بسبب توقف آلتها عن الإقلاع مرة أخرى ولمدة سنتين اثنتين، وثبات وتوسع الاحتلال الإضرابي، والإضرابات عامة في البلاد. شباب تونس كانوا يندفعون إلى الساحات للاحتجاج بهدف تحسين أوضاعهم المختلفة، ليجدوا أنفسهم وقد انزلقوا ببطء في عصيان متمرد أملاً في المطالبة بتحقيق ضروريات المعيشة..!! إزاء هذه الحصيلة الكارثية وما سببته حادثة اغتيال شكري بلعيد من صدمة مهولة، فقد دعا رئيس الوزراء التونسي، زعيم حزب النهضة سابقا حمادي الجبالي، لضرورة تشكيل حكومة كفاءات جديدة دون أن يكون للحزب دوراً سيادياً فيها الإطلاق، وإلا سوف يتقدم الجبالي بالاستقالة إلى رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي، في حال فشل مبادرته، أملا في انتظار الفرصة المناسبة لتحقيق مستقبل أفضل للبلاد.. حزب النهضة عارض وبشدة المبادرة إياها، لأن لهم توجه إسلامي معّين يرومون فرضه ونشره في كل مناحي تونس. لكن مبادرته قوبلت برفض شديد وقاطع من قبل أعضاء متشددين في الحزب. بعد فشل محاولاته المتكررة معهم بضرورة صيغة مشروع سلام «عقد اجتماعي وطني لإنهاء العنف السياسي» توجه الجبالي بالاستقالة إلى رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي. يبدو واضحا أن هؤلاء يرومون إلى سيطرة حزبهم على أجهزة الدولة وصولا لتأسيس دولة دينية تنأى بنفسها عن كل شكل من أشكال الديمقراطية ليكون شعارها: العنف في حل الأمور السياسية أو معالجتها، وليس على الإطلاق إشاعة العدل والقانون واحترام آراء الآخرين وعدم استخدام العنف لفض المشاكل وسوء التفاهم بين المتحاورين وأصحاب السلطة عموما.. وليتوالى على هذا النحو وبشكل مؤكد مسلسل العنف والعنف المضاد الذي سيدفع حتما بتونس وطنا وحكومة وشعبا إلى لجة الهاوية. البعض من الإسلاميين، وفي ظل الانحطاط في تونس، أدركوا أخيرا وجوب الكفّ عن موالاة المتطرفين والتحول إلى تشكيل جبهة مع القوى السياسية الكبرى لإعداد وثيقة دستورية .. المعارضة التونسية لا بدّ وأن تنتهز هذه الفرصة وتسرع بالتحضير لمشروع عقد اجتماعي وطني يأخذ بالحسبان كافة مكونات المجتمع التونسي بما فيها الإسلاميين، والمواطنين، التقدميين، والعلمانيين، والنقابيين. وبهدف الوصول لوضع حدّ للفوضى المتفشية في تونس، وعدم إخلاء الساحة السياسية لسلطة ليس لها هدف آخر سوى الاعتداء على الحريات العامة وتأسيس دولة دينية، مع عجزها الأكيد عن القيام بدور الوسيط وتوفير العدالة والأمان، ونزع التحديات الاجتماعية والاقتصادية بسبب ثورة الياسمين، يقتضي الأمر قبول الخروج من المعارضة المانوية بين العلمانيين والمؤمنين وصولا بذلك لإزالة التهديدات الكبيرة وعليها يتوقف مستقبل تونس وتجنيب البلاد من الغوص في هوة مأساة تحاكي تلك التي استغرقت فيها الجزائر في التستعينيات ولعشر سنين متوالية.. |
|