تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


طقــــــوس /تـــــــــراب

رسم بالكلمات
الأثنين 18-4-2011م
حيدر هوري

 للغيوم طقوسها..

تحاكي كوامن الماء فينا, تسيّرها وفقاً لغرائزنا الخفية, فالطين وحده عاجزٌ عن قراءة الوجوه النابضة بالموت أو الحياة .كانت هادئةً تحاور الغيوم .لم يكن لديها الوقت فيما مضى للقيام بذلك ..‏

قريةٌ صغيرةٌ متينةٌ بأشجار السرو والرمان والزيتون. عكفتْ على فكّ طلاسم العيون الباهتة في شوارعها التي تضيق لتتسع فجأةً أمام الغرباء كيما يضيعوا عن بساطتها. تاهت منذ فترةٍ عن نفسها. صارت غريبةً. ما مرّ بها عابر سبيلٍ إلاوهجاها. ربيعها وورودها, والخضرة العفوية التي تكسو ترابها ترى قلبها جامداً . سكانها الآن يتقنون فن النحت, يغيرون ملامحهم وفقاً لطبيعة المناخ.‏

لم يغب عنها سوى (5) سنوات لكنها كفّت خلال هذه المدّة عن طقوس الحب والتراب. كانت متخمةً بالنعاس عند دخوله إليها, مع ذلك صحت في روحه أزهار البابونج والزيزفون وانطلقت أسراب العصافير من مفازاتها مسقطةً إياه عن صهوة التركيز .تأمل شجرة الكينا الكبيرة  كثيراً , كانت قد فقدت الكثير من شموخها وذاكرتها, والتواريخ التي سجلها على ساقها عندما كان حماماً يحوم حولها ..‏

فقدت القرية الكثير من طقوسها, وشردت عن العادات قليلاً.. أقصد بعيداً... دهمه الفضول لمعرفة سرّ غربته التي أحسّ بها رغم عودته منها.. كل شيءٍ ميّتٌ, هواء القرية.. عصافيرها.. فراشاتها.. حتّى عجائزها و أطفالها ...الاستفهامات تتقافز في باله كأسماكٍ جفّ عنها الماء .‏

وقف طويلاً يراقب الدروب التي اكتست بالسواد, وهبطت من عيونه ما يزود عن تآلف الفرح‏

رغائبها ثمّ تابع المسير .‏

كلّ من مرّ به لا يجيد شيئاً سوى لغة الضباب, نظراته سكاكينٌ معقوفةُ الرأس. تجزُّ الخراف والسحب البيضاء القافزة من قلبه لتستنفر نوافير الدم والرعاف على بياض قميصه, لتلطخه بميراث القبائل والعشائر الطافحة برائحة (الزبل).‏

كان يضغط على أذنيه بقوّةٍ كلّما خطا خطوةً باتجاه منزله. فأصوات المارة تتحول إلى نباحٍ حاد فيهما. تكسّرت آماله العاجية. فأطلق زفرةً أولجت حزن الأرامل في نهارات حلمه .‏

أصوات البلابل صلبتْ.. كيف يرتّب العمر وقد تكاثرت حوله أشباحٌ تضع دائرتين بلون الليل فوق الرؤوس.‏

كان يقرأ الجمال في مساحات قريته بلا جهدٍ أو مشقّةٍ , يقرؤها في أعمدة الإنارة, وعلى قرون الماعز. يرتب الجمال تبعاً لدرجات اللون. يرسم للرمان طقساً ناضجاً تطفو الرؤى على رخامه الأحمر, أما الزيتون فله طقسٌ نابضٌ بالطهر تتفتّح في ظلاله الوارفة مغاليق النفوس, يسلِّمُنا ليفاعة الطين كلما أسلمنا العمر للكهولة لنجمع الأناشيد وننثرها في المعابر؛ بلاغاتٍ عصت عن أمر اللغات.‏

عاد ...وقد خرجت هذه الألوان عن طاعة اللون المقدس ..الأسود يغزل من لونه كمائن للمارة. ينشر العمى والظلام .. أمّا الأحمر فقد فاض كثيراً, سال من عناقيده لهاث البياض.. الأصفر تمرّد, والأخضر نام.. والأزرق اضمحلّ .. و .. و ..تساقطت حقائبه من يديه .. كان يحمل فيها ألوانا جديدةً؛ أتى بها من بلادٍ بعيدةٍ. أهلوها يتقنون تفاصيل الجمال .‏

الأخضر فيها يبشّر بالحبق, وبالأصابع الغضّة والبراءة ,أمّا الأزرق فصلاةٌ تخفّف من أثقال وأخطاء التراب ..والأحمر دورةٌ أخرى للحياة. في معابرنا التي ضاقت بنا, تبثُّ الطيور في أرواحنا لنحيا.. والأصفر ينابيع أشعلت أصابع الغابات موسيقا؛ تتسلل إلى لغاتنا لنجمع في حروفنا بين رائحة البن وصدى أوتار(البزق) لتتدفق بالبلاغات التائهةِ عن قبلتها .‏

عاد, ليأخذ بعضاً من البياض إلى تلك البلاد.. بحث عنه كثيراً في شوارع قريته وبساتينها ..‏

ماتت النوارس في عيونه, وجفّت أصابعه الغضّةُ.. شهق شهقةً قويّةً, ثمّ تحوّل إلى سحابةٍ بيضاء مثقلةٍ بالتعب.. تجرّها حمائمٌ بيضاء نحو البعيد.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية