|
الافتتاحية لاحسم في هذا الاتجاه، ولاجزم في ذاك... لا استنتاج يمكن الركون إليه، لا تحليل قادراً على تقديم رؤية مقنعة تحدد أفقاً حقيقياً. لكن ذلك كله لم يمنع من التقاط جملة من البديهيات المتتالية عما خلفته التطورات الأخيرة من فراغات هائلة تتزاحم عليها محاولات الإشغال من كل حدب وصوب. ربما كان الخطأ الأول في القراءة المتسرعة التي لم يتح لها الوقت أن تمسك بأطراف الخيوط المتشكلة، وربما كان أيضاً في تسريع الاستنتاجات والتوقف عند الظواهر التي طفت، دون أن يرتبط ذلك بتلمس الأعماق وما تختزنه من تموجات. ثمة أحاديث متطايرة عن مقارنات.. وهي في أغلبها ناتجة عن غياب الفهم للفوارق الحقيقية بين منتج هنا ومنتج هناك، بين تبويب اعتمد في أجندته على الإملاءات.. وآخر استنتج مسبقاً عبثية الارتهان لها، وواجه بسبب ذلك سيلاً من الأعاصير والأكاذيب والاتهامات. كل ذلك لم يمنع من النظر إلى المسألة من جوانب متباينة، ولكنها لم تصل إلى حدود التوصيف الدقيق مع اقتران ذلك بأحكام استنتاجية مسبقة، دفعت إلى التهويل في جوانب كثيرة ومتعددة. عند هذا الحد كانت هناك على الضفة الأخرى مجموعة تتشكل من الاصطفافات السياسية التي رأت فيما يحدث فرصة سانحة للاقتناص، وعليه عممت النظرة الأحادية، وبالغت في تمرير صورة تتكرر كل يوم، ومفادها أن التشابه في بعض جزئيات الأرضية السياسية لابد أن يقود إلى المنحى ذاته. ما فاتها أن معايرة المشهد بهذا الشكل الفطري لا يمكن أن تعكس الحقائق المتشربة للواقع بكل تجلياته ولاحدود ومساحة السعي إلى منتج سياسي وتنظيمي يلتزم فعلاً بأحكام المؤسسة ودورها. لذلك كان السؤال عن المؤسسات في مصر.. وقبلها في تونس.. وبعدهما في ليبيا وهو سؤال على الأقل شرّعته سرعة التداعيات.. وغياب البدائل القادرة على سد الفجوة الحاصلة بين الانهيار وإعادة التماسك... وبالتدريج باتت تنتفي جملة من الصور التقليدية المعتادة التي شكلت في كثير من الأحيان المشهد العام لوعي جمعي، ومع انتفائها ثمة مساحات كبرى من الفراغات تتشكل، لا تزال كل المحاولات الخجولة لملئها عاجزة عن تسجيل حضور ولو رمزياً. ومع تداعيات دراماتيكية لكل ما تشهده الساحة العربية من تطورات، يسجل ذلك المشهد جملة من الانكسارات المتعاقبة التي تضيف إلى المتاعب السياسية قائمة طويلة من الحسابات والاعتبارات المستجدة، والتي تكون في الأغلب انعكاساً لحالة الانكماش الناتجة. فإذا كان المعيار الأساسي الذي أحكم سيطرته على مدى العقود الماضية، يرتبط بحدود ومساحة ما تشغله الكتل السياسية في الواقع العربي، فإن تلاشي بعضها، وانهيار الآخر، مقابل انكشاف أوهام أخرى، يجعل أي حديث توصيفي مجرد سفسطة سياسية لا يمكن أن تقدم إلى الواقع السياسي أي إضافة نوعية. فالمؤسسة السياسية والتنظيمية حتى الأمنية التي شغلت في الماضي حيزاً من قناعة تمَّ تعميمها، وجزءاً من قاعدة تمَّ الاتكاء عليها.. هذه المؤسسة لم تكن في تجارب التطورات الأخيرة مخيبة فحسب، بل عمدت إلى تسطير مساحات مذهلة من الخواء الذي فتح الباب على مصراعيه أمام أسئلة غائبة أو مغيّبة عن دورها المتوهم، وعن حضورها المحدود والمتآكل بمستوياته المختلفة. بل ثمة من وجد فيها هياكل كرتونية غالت في انتفاخها الدعائي والسياسي وبدت واهية إلى درجة غير مسبوقة. وحين عجزت الأسئلة المتتالية عن التقاط أي إجابة، كان التعويل على البدائل أكثر مدعاة للخيبة بصورها المنتشرة على مساحات هائلة من بقاع الأرض العربية.. وهو ربما يفتح بوابات جادة للحديث عن الاحتياجات والتعامل مع المؤسسات على أنها نتاج تفاعل حقيقي، وليست فقط مجرد تسطير سياسي يكمل ديكور الصورة العربية. إن الحديث عن دور المؤسسة وممارستها على أرض الواقع يملي إعادة نظر في ظواهر طفت على السطح خلال العقود الماضية.. لكنها عجزت عن ترجمة ما يموج في العمق من تطورات، كما عجزت عن تلمس حدود ومساحات الاحتياجات والتطلعات التي كانت تنمو في الظل، بعيداً عن أعين ورقابة المؤسسة الأمنية وحتى الحزبية التي اكتفت بهامش لم يرتق بحال من الأحوال إلى ما هو مطلوب منه. التجارب أو النماذج التي جالت عليها الأحداث الأخيرة وساهمت إلى حد كبير في تعديل الفجوة بين ما هو حاصل وبين ما كان يتم، لكنها تحتاج إلى إعادة تدقيق في النواتج والاستطالات التي أخرجتها تلك الأحداث إلى حيز العلن.. وربما تكون هنا المسألة الأهم التي تستدعي بالضرورة العمل على تحديث الفوارق والخطوات وصولاً إلى تعميق الحضور وانعكاس ذلك في واقع الفعل السياسي والمؤسساتي. |
|