|
فضاءات ثقافية
وأحد أهم وأشهر الفائزين بالجائزة العالمية الرفيعة. جاء إليها في بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد أن احتدت الخلافات بينه وبين نظام الحكم في بلده إثر صدور رواية «الإنجيل كما يراه المسيح» وفوزها بجائزة الرواية الأوروبية، حينها اعترض بابا الفاتيكان وصنفها بأنها رواية مهرطقة واستغلت حكومة البرتغال الفاسدة هذه الحادثة لتهاجم الكاتب الذي ينتقدها على الدوام، هكذا قرر ساراماغو فرض النفي الاختياري على نفسه في هذه الجزيرة، وتزوج مترجمته بيلار دل ريو، وأقام في إحدى جزر الكناري الواقعة في البحر المتوسط حتى نهاية حياته.
التقيت بأرملته بيلار دل ريو في المكتبة، المفتوحة للزيارة العامة من التاسعة صباحاً للثانية ظهراً. وتضم المكتبة آلاف الكتب التي قرأها ساراماغو طوال حياته التي امتدت ما يقارب الثمانية والثمانين. فضّلت بيلار أن نجري الحوار في مكتبة ساراماجو محاطين بكتبه التي كتبها وقرأها وكتبت عنه. بعد أن تجولنا بين الكتب والصور، قلت بتلقائية: من المؤسف أنه مات ! فنظرت إلي بيلار وقالت: الألم ليس في الموت، بل في الحياة التي يجب أن نحياها كل يوم. كانت السيدة متأثرة جداً، ولابد أن التجول بين أشيائه أثار لديها الذكريات. بدأت هي الحديث، واستمعت لها: •• ساراماغو كان كاتباً متسقاً مع نفسه بشكل مذهل، كل ما كان يريده في الحياة أن تصل كلمته للإنسان الذي يكتب لأجله. عندما فاز بجائزة نوبل أنشأ مؤسسة ثقافية تحمل اسمه، وعند كارثة هايتي لم يكتف بالكتابة عنها بل تبرع بجزء من أمواله لمساعدتهم. كان يفعل ما يقول، وما يقوله كان وعداً. كان مشغولاً بالإنسان في كل مكان بالعالم، وكان آسفاً على كل ما يقع من مجازر بأيد البشر أو كوارث طبيعية. أقول لك ذلك لأنني أعرف أنك مهتم بمعرفة ساراماغو في حياته كما عرفته في فنه. • سأبدأ من بداية ساراماغو ككاتب. لقد نشر روايته الأولى، وسلم الثانية لدار النشر ولم تنشر أبداً في حياته، ثم لسبب لا نعرفه توقف عن الكتابة ما يقرب من ثلاثين عاماً. ماذا حدث بالتفصيل؟ وهل توقف عن الكتابة أم عن النشر؟ •• في الثلاثين قدم ساراماغو لدار نشر روايته «طاقة ضوء» وانتظر أن يهاتفوه بقبول أو برفض الرواية, ورفض هو أن يهاتفهم قائلاً: إنها مهمة الدار وعليهم أن يحترموا الكتاب لأن احترام الكتاب من احترام الكاتب. ولما طال الأمد ولم يهاتفوه قرر التوقف عن الكتابة. كان حساساً جداً، وكان يقول دائماً من حقك أن تحب أو لا تحب من تشاء، لكن واجبك أن تحترم الإنسان. هو إذن توقف عن الكتابة لا عن النشر، وانشغل بالعمل. كان ذلك عام 1952. وفي منتصف السبعينيات نشر ديوان شعر بعنوان «قصائد محتملة ». وفي 78 نشر روايته الأولى بعد العودة للكتابة «كتاب الخط والرسم » وتوالت أعماله. • لكن، ماذا كان يفعل خلال هذه السنوات؟ إنها سنوات طويلة وغامضة في حياة الكاتب. •• ليست غامضة، هو لم يكتبها فقط لكنه كان يتحدث عنها مع المقربين. لقد عمل ساراماغو في بداية حياته ميكانيكياً، وفشل، لأنه لم يكن ماهراً في الأعمال اليدوية بقدر ما كان بارعاً في التنظيم. هكذا قال له صاحب المؤسسة التي كان يعمل بها إنه رجل يحب القراءة والثقافة وسيناسبه أكثر العمل في المكتب، فعمل في مكتب المؤسسة وانتقل من مؤسسة سيارات إلى أخرى كموظف، أثناء ذلك كان يعمل مترجماً، وترجم أعمال تولستوي من الفرنسية كلغة وسيطة، لكن كما تعلم، فالترجمة لا تقيم حياةً، من هنا بدأ بالتعاون مع الصحف بكتابة المقالات كما عمل محرراً بدار نشر. لم يتوقف أثناء كل ذلك عن القراءة أبداً، فقرأ في التاريخ والفلسفة والأدب، وكان يحب كافكا وبورخيس وتوماس مان. • النصف الثاني من أعمال ساراماغو كان من ترجمتك، هل وجدتِ صعوبات مثل التي يجدها المترجمون من لغات أخرى؟ وهل كنتِ تسألينه عما يبدو غير واضح؟ •• ساراماغو كما تعلم كاتب صعب جداً، ولم يكن أبداً سهلاً على الإطلاق. مع ذلك، على المترجم أن يعرف كيف يحل هذه الصعوبات، وأن يحافظ في الوقت نفسه على لغة الكاتب وإيقاعها. الحقيقة التي أود أن أعترف لك بها أنني لم أكن أسأله فيما يخص الصعوبات، رغم أنه يجيد الإسبانية والبرتغالية بنفس القدر. حدث أنه كان يرفض التعاون معي، لذلك كنا نتناقش ونحتد أحياناً، لأنه في المقابل كان يقبل التعاون مع مترجمين من لغات أخرى.. • كزوجة، ومثقفة كبيرة، هل كان ساراماغو يسمح لكِ بقراءة مخطوط رواياته قبل نشرها؟ هل كان يطلب رأيكِ؟ وهل كان يأخذ به فيعدل شيئاً؟ •• أولاً: نعم كنت أقرأ المخطوط قبل النشر لأنني كنت أترجمه إلى الإسبانية، فكما تعلم أعمال ساراماغو كانت تصدر بالبرتغالية والإسبانية في نفس الوقت. ثانياً: ساراماغو لم يطلب مني رأيي أبداً فيما يكتب، أبداً، ولا أعتقد أن الكاتب في حاجة إلى رأي أحد أياً كانت الثقة بينهم. • وهل كان من الكتاب الذين يمسحون كثيراً؟ كم مسودة لكل رواية؟ •• ساراماغو كان يكتب على الكمبيوتر مباشرة، وبالتالي من الصعب معرفة إن كان يمسح أم لا، كما أنه كان يطبع الرواية بعد أن يتيقن أنها على شكلها النهائي. في البداية كان يرتب العبارة في عقله، ثم يكتبها على الكمبيوتر. وعندما ينتهي من الرواية كان يقول: انتصرت في المعركة والآن يجب أن ألقي الموتى، والموتى كانوا الكلمات والعبارات الزائدة. أضيف فقط أنه كان يكتب صفحتين في اليوم، ولم يكن يكتب أكثر من ذلك. وكان يقول دائماً: على الكاتب ألا يتعجل وعليه ألا يهدر الوقت كذلك. • وهل كان يكتب يومياً؟ •• نعم بالطبع، كان يكتب صفحتين على الأكثر. • من وجهة نظرك، ما هو أفضل عمل كتبه ساراماغو؟ ولماذا؟ •• لا أعرف، فكل يوم لي عمل مفضل، يتوقف ذلك على استعدادي للقراءة ومزاجي واللحظة التي أقرأ فيها. فأحياناً أختار «الإنجيل كما يراه المسيح » والآن «البصيرة » لما يحدث في العالم من سوء استخدام السلطة، كما يحدث في الربيع العربي، والمظاهرات التي تحدث في أوروبا. لقد توقع ساراماغو كل ذلك، وهاجم السلطة التي تسيء للشعوب. في النهاية «البصيرة » رواية سابقة ترى عالم اليوم ببصيرة واضحة وجلية. |
|