تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


وهم البادية

الملحق الثقافي
19-2-2013م
قصة: نسرين ياسين بلوط/ بيروت :يوم صيفي يتصبب باللظى ويتلفح بخمار القيظ، والسحب فيه قد عبّت عبابها وفسحت مساحاتها لوطأة الشمس بلهيبها المتقد شرراً مستطيراً..

كان الغضب قد أصلدها بتجهم يجول ويصول في حناياها ويدب في الساجي والمائر، في الجماد والإنسان.‏

شق أذنيه وهو هائم في شرود هتاف الباعة يتبارزون لجذب الأنظار إلى ما يكدسونه في عرباتهم، مشغوفون بلغط وصخب، حتى يبثوا روح الإثارة في زبائنهم فيقبلون على الشراء بطيبة خاطر.‏

ها هي ذكرياته تذريه كغصن هشيم يابس عافه الزمن بعد أن تعتعه بنعم صورت له أنه ظفر كالفالج بكل ما هو نفيس، لكنه لم يدر أنه زائل في قبضة الأعاصير التي تنتظره في منعطف الحساب.‏

حساب؟ أظن نفسه يوماً أنه قد يفلت من غير حساب بما جناه في شبابه وما صبت إليه نفسه وأن شملة الضيم والبلاء لن تطاله أبداً؟‏

كيف ادعى الإيمان وتذرع بالدين والصلاة وقراءة القرآن أمام قومه عندما كان ضالاً في نفسه مجحفاً في حق غيره ظالماً حاقداً لا يلوي إلا على فنون الشرور دون أن يلتفت إلى نوائب الصروف التي قد تتحتم عليه؟‏

صاح بذهنه لصوت يأتيه من أعماق الضمير من زمان أدبر واندثر وآذن بالرحيل شأنه كشأن كل شيء يزول ويتبدد.‏

صوت امرأة لطالما أراق دموعها وانهال عليها بجام غضبه تنكيلاً وساواها بالطين طوعاً حتى يمعن في إذلالها، كانت تلك المرأة زوجته، تردد وهو ينشب بخاطره في ذاكرته المتلفة.. نعم زوجته الأولى.‏

وأطل بعينيه على محياها الذي يفتقد الجمال. لطالما سخر من دمامته وصلابته، ولطالما قهقه مع أصدقائه سخرية منها، كأن قبحها خطب فادح حتى نشأت عندها عقدة الدونوية جراء تعسفه اللاذع.‏

لقد تزوجها لنهب مصالحها ولتوسيع علاقاته من خلال عملها كمسؤولة في إحدى الدوائر الحكومية، ما جلب له الخير الكثير في عمله. وعندما اشتدت أواصر حالته المادية والاجتماعية تخلى عنها ضاناً عليها بما تجبره عليه أصول العشرة من حسن المعاملة حتى في الفراق.‏

خانها بكل أنانية وجهر ولامبالاة. وجعلها ترى خيانته بأم عينيها لاجماً لسانها عن الدفاع عن حقها كامرأة بتهديدها بأن يقيلها من عملها، بعد أن صنعته.‏

عاث الصمت من حوله بعد أن أشرف على بيته الكائن في منطقة هادئة يسودها السكون المطبق الحالك، وهو يمضي في ماضيه مستنكفاً من لججه التي بخوض فيها بندم لا ينفعه. ولاح له وجه زوجته القانية منيراً كالبدر ساطعاً كالقمر في جوانح صدره. تذكر كيف سرق مصاغها واتهمها بالجنون وأوحى به لكل من حولها حتى التفوا حوله مساندين مؤازرين، وقد أدرى دوره يومها على أتم وأكمل وجه.‏

لم يلق بالاً لما قد يلحق بها من صروف الدهر بعد أن جردها من مالها وسمعتها وحتى عقلها، ورماها لوعثاء الطريق الذي يحف بالشوك. لكنها رغماً عنه سطعت وأشرقت كالنجم السني. وتذكر كيف كان سخطه عليها كبيراً بعد أن نجحت وتألقت رغماً عنه وازدهرت رغم أنف جبروته.‏

ثم تكاثفت ذكرياته كأنها غاياهب غمام ينقشع كلما هبت عليها عاصفة الترحال في الماضي البعيد، يرتج عليها سور العار، العار مما جلبت يداه.‏

وتذكر زجته الثالثة، والتي تكبره في السن وطمعه بما تملكه من المال الجزيل الوافر الذي يضمه لثروته. تذكر ذكاءها الحاد بعد أن جعلته يتصبب طمعاً بمالها فكان كرحال البادية يرقب ليكتشف فيما بعد أنه وهم صورته له البادية الساقية بنهم لوردها والارتواء منها.‏

لم تدعه يغرف من مالها كما اشتهى بل أخذت منه ولم تعطه فلساً، وتركته يتخبط في حماقته وغبائه، حتى فقد أعصابه وطلقها.‏

عاش وحيداً بعد زيجاته الثلاث مع مرض قلبه، دون أن يبوء بآثام ماضيه لأحد، حتى لا تتزعزع الصورة المشرقة الزائفة التي رسمها لشخصه. حتى أولاده تنكروا له بعد أن شهدوا ما ألحق بأمهاتهم من الغدر ومضض الألم.‏

لأول مرة أحس أنه يريد أن يقرأ في كتاب الله لا ادعاء للإيمان والعفة أمام مرأى الناس كما اعتاد أن يفعل، بل ندماً وألماً مجترعاً كأس المنون، وقد أرهقه الجزع من زجرة الضمير والإتيان بالحق.‏

ولأول مرة يشعر أن كل حياته كانت تصب في الترحال، وكان هو رحالاً سعيداً في بادية الوهم التي سيدها له الطمع وزينها له الشر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية