|
الملحق الثقافي اللتان حددتا مسار الفن الحديث لا تغادرا أبداً متحف أورسيه، وهما من أهم لوحات مانيه. كما ويملك أورسيه أيضاً لوحات مثل «الناي» المسطح بشكل راديكالي كما ورقة اللعب، والبورتريه بالحجم الطبيعي التي تظهر ثلاثة شخصيات منفصلة وتحمل عنوان «الشرفة» وهذه اللوحات تشي ببراعة الحركة العصرانية وغرابتها. وكل هذا يجعل من مانيه رائداً وضع الحالة الإنسانية في قلب تجاربه بالشكل والتركيب. والتحدي الذي قامت به الأكاديمية الملكية للفنون في إنكلترا هو معرض «مانيه: تصوير الحياة» «الذي يستمر حتى الرابع عشر من نيسان» إذ أنه يروي القصة دون القطع الفنية الهامة. عوضاً عن ذلك نرى مانيه بمقياس حميمي، مع التأكيد على لوحات بورتريه ومشاهد يوميه ليست مرتبه وفقاً لتسلسل زمني ولكن وفقاً للموديل وللبيئة: أسرة، أدب ومسرح، رجال من العالم. وقد تبدو بأنها طريقة حمقاء للتعامل مع رسام معقد جداً، وبأن الأكاديمية الملكية لا يمكنها منافسة معرض أورسيه من حيث المدى العمق. غير أنها منحت بوحاً فكرياً ومتعة بصرية وزودت المشاهد برؤية حول طريقة عمل مانيه ولفتت الأنظار إلى أعمال فنية أقل شهرة.
«فتاة في قبعة صيفية» لوحات ساحرة بسيطة تظهر امرأة شابه بملابس فاخرة «ايفا كونزاليز» تشكل عالماً قائماً بذاته، فالرهافة ذات الألوان القرمزية والكريم والرمادي تعكس صحة مانيه الهشة، حين أصبح من الأسهل عليه التعامل مع الباستيل عوضاً عن الألوان الزيتية، كما ويدل على اهتمامه الدائم بجمال الملابس. كان مانيه يريد للوحاته أن تبدو آنية ومباشرة وقادرة على التقاط اللحظة العابرة. فنرى الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه محدقاً بأفق لا ينتهي وبيده سيجاراً عوضاً عن القلم، ضائعاً في لحظة حلم إبداعي. والمطربة ايميل أمبير بدور كارمن وقد رسم ثوبها الزاهي بضربات خطوط سريعة قصيرة، وأضيء وجهها باللون الأبيض في دلالة على أضواء المسرح. ونرى أيضاً الرسام الإيطالي خيروسيب دين يتيس وزوجته مسترخيان في حديقة منزلهما في أصيل صيفي حيث يتحول الضوء إلى الظل. وفي الواقع لوحات كهذه تنفذ بدقة وتحتاج إلى الكثير من الجلسات. فمثلاً مات الممثل فيلبير روفيير قبل انتهاء لوحة «الممثل التراجيدي»، وقام بعض الأصدقاء بالوقوف كموديل من أجل إتمام الأيدي والأرجل، ولكن بعض الجلسة الخامسة عشر لم تكن اللوحة أكثر تقدماً عن الجلسة الأولى مما أثبط عزيمة الموديل والرسام. الكثير من الأعمال لم تنجز بالكامل، وكلها كانت ترسم وسط قلق الرسام إذ يقول: «أنا دائماً أخاف من أن يخذلني الموديل، من ألا أتمكن من لقائهم مرات كثيرة وبالحالات التي أريدها، إنهم يأتون ويتخذون وضعية الرسم ومن ثم يذهبون قائلين لأنفسهم بأنني أستطيع إنجاز اللوحة من دونهم، حسناً، ما من أحد يستطيع القيام بهذا لوحده». غير أن الاستثناءات تتجلى بشكل رائع هنا، وهن ثلاث نسوة، كل واحدة شاركت في محاولة مانيه الثورية من أجل صياغة واقعية جديدة معالجة ببراعة. إحداهن هي بيرت موريسو، نسيبة مانيه، ورمز لامرأة القرن التاسع عشر التي تمزقت بين البورجوازية والبوهيميا. كانت هي النموذج للوحة «الشرفة» وعنها قالت: «أبدو غريبة أكثر مني قبيحة». الثانية هي سوزان لينهوف، مدرسة البيانو الهولندية التي تزوجها الرسام عام 1863 بعد 11 سنة من ولادة ليون، الذي لم تكن أبوة مانيه له أمراً مؤكداً. وارتباك ليون بخصوص هويته أضاف حدة لرسمه كبطل مبهم في لوحة «المأدبة الصغيرة». وبالمقابل فإن الراحة التي يشعر بها مانيه مع سوزان منحت اللوحات التي صورتها حرية لا مثيل لها. فهي الموديل في لوحة «مدام مانيه على البيانو»، وهي المرأة ذات الخمسين عاماً المغطاة بأوراق النبات في لوحة «مدام مانيه في مستنبت زجاجي». وليس من المصادفة أن السنة التي تزوج فيها مانيه وسوزان شهدت ولادة لوحات «أولمبيا» و»وليمة غذاء فوق العشب» و»فينوس». أما الثالثة فهي فيكتورين موران التي تبدو في بروتريه عام 1862 يظهر رأسها وكتفيها وتواجهنا بنظرة مباشرة وملامح قاسية. وفي نفس العام كانت الموديل للمغنية المتعبة التي قابلها مانيه على ناصية شارع فظهرت في لوحة «مغنية الطريق» وفيها حاول الرسام حل التناقصات بين التقليدي والحديث. وفي لوحة «موسيقا في حدائق تويلريس» يظهر مانيه نفسه وكأنه يشارك في خوض التجربة الرائعة للحياة الريفية الحديثة بموازنته بين الحيادية والالتزام العاطفي، فهو مؤرخ تلك الحياة الذي لا يضاهيه أحد. عن The Independent |
|