تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عصر العمالقة ....ثنائية الطرب الغريزي والنفسي

الملحق الثقافي
19-2-2013م
معين حمد العماطوري:عاش التراث العربي الموسيقي والغنائي في القرن الماضي، مرحلة من الإبداع الفني، وكان تمتع بخاصية تحمل مقومات التأليف الموسيقي ثقافة وفكراً،

وتميز عصر العمالقة والطرب الأصيل بالتنافس الشريف في الموسيقا والغناء العربي.‏

إن الحديث عن عصر العمالقة ذو شجون، فلا يمكن إن يذكر العصر الماضي دون ذكر سيدة الغناء العربي /أم كلثوم/ إذ كان لها دور كبير في إغناء المكتبة العربية الفنية بالغناء الأصيل مثل /الطقطوقة –والقصيدة- والمونولوج- والدور- والموشح- والأغاني الشعبية / وساهمت في تنمية التراث العربي الفني، ولا بد من الاعتراف بأن تراثنا العربي الثقافي الحضاري هو أثمن ما نملك وهو يمثل ذاكرة إنسانية اجتماعية تاريخية، والحفاظ على هذا التراث وتوثيقه ونشره يعتبر واجب وطني وقومي من المقام الأول.‏

لقد كان لكل عصر من العصور عبر التاريخ، مغنياته المشهورات، ففي صدر الإسلام وبني أمية، كانت سيرين مولدة شاعر الرسول «ص» حسان بن ثابت وعزه الميلاد وجميلة وسلامة القس، وفي عصر الدولة العباسية كانت بذل ودنانير وعليه بنت المهدي وذات الخال ومتيم الهشامية وشارية وعريب، وفي عصر الأندلس ولادة بنت المستكفى وهند جارية أبي محمد عبد الله بن مسك الشاطبي .‏

لم تحظ مطربة من بين هؤلاء بما حظيت به أم كلثوم من ألقاب الاحترام والتقدير والخلود؛ فقد تألقت المطربة العربية /أم كلثوم/ في المجد العربي على مدى خمسين عاماً متفردة، وكانت نبعاً ثراً لأصالة الشرق بصوتها الجميل، بعد أن نشأت على حفظ القرآن الكريم وتجويده، وإنشاد المدائح النبوية والقصائد في سن مبكر مع والدها الشيخ السيد البلتاجي وشقيقها خالد، لتبدأ طريقها بقصيدة الشاعر أحمد رامي وأستاذها في التلحين الشيخ أبو العلا محمد بعنوان /الصب تفضحه عيونه/ على مقام البياتي، دون أن تتعرف على الشاعر. وبعد أن أستمع إليها أحمد رامي وتعرف عليها عام 1924 نظم من وحيها ثلاث قصائد في 14 سبتمبر 1924 خلال وجودها في رأس البر، أولها /صوتك هاج الشجو في سمعي/ والثانية في 18 ديسمبر 1924 /يا من شدت بنسيب/ والثالثة /أفديه إن حفظ الهوى/، وفي عام 1928 لحنت لنفسها طقطوقة /على عيني الهجر ده/ ومونولوج /يا نسيم الفجر ريان الندى/ 1936 وتوقفت عن التلحين لقولها «إعط ما لقيصر لقيصر، في عالم التلحين».‏

نلاحظ أن مسيرة أم كلثوم التي تجاوزت نصف قرن قد أغنت العديد من القصائد والطقطوقة ومونولوج والدور والنشيد وغيرها؛ فقد رصدت الدكتورة إيزيس فتح الله والأستاذ محمود كامل في سلسلة أعمالها الموسيقية بكتابها الأول /أم كلثوم كتاب وأسطوانة/ إحصائيات أعمال السيدة أم كلثوم أنها غنت وحسب عدد الألحان رياض السنباطي 103 ومحمد القصبجي 73 وزكريا أحمد 68 والدكتور أحمد صبري النجريدي 13 وداوود حسني 11 وبليغ حمدي 11 ومحمد عبد الوهاب 10 وأبو العلا محمد 9 ومحمد الموجي 9 وكمال الطويل 3 ولحنين لها ولحن لكل من عبدو الحمولي وفريد غصن وسيد مكاوي.‏

الإحصائية الغنائية تؤكد أن السيدة أم كلثوم تعاونت أكثر مع السنباطي على الرغم من رفضها في البداية لأعماله، إلا أن القصبجي بألحانه لها ثبت قدمها فنياً للعالم بإدراك المبدع الذي طور الموسيقا العربية من خلالها، كما كرس النهج التطريبي الشيخ زكريا أحمد بألحانه مع أنها لم تتعاون كثيراً مع النجريدي وداوود حسني، لكنها تعاملت مع الملحنين الشباب أكثر حين غنت لبليغ حمدي على سبيل المثال أكثر من أبو العلا محمد ومحمد عبد الوهاب، وبتوزيع النسب المئوية نرى أن السنباطي قدم 32،7 بالمئة، والقصبجي 22،17 بالمئة، والشيخ زكريا أحمد 22،2 بالمئة، والدكتور النجريدي 4،13 بالمئة، ليشكل داوود حسني ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي نسب متقاربة بينهم 3،5 بالمئة والشيخ أبو العلا محمد ومحمد الموجي وملحنون آخرون 2،9 بالمئة، كذلك لو أجرينا مقارنة نسبية مع الشعراء لوجدنا أنها غنت لأحمد رامي كأول شاعر تعاملت معه بنسبة 46،7 بالمئة، ثم يأتي محمود بيرم التونسي 12،38 بالمئة، أما أمير الشعراء أحمد شوقي وعبد الفتاح مصطفى وعبد الوهاب محمد فكل منهم حصل على 3،5 بالمئة، وطاهر أبو فاشا 2،9 بالمئة، وشعراء آخرون يشكل مجموعهم 27،85 بالمئة.‏

الطرب الغريزي والنفسي‏

عمل العمالقة الكبار على تكريس التطريب الغريزي في ألحانهم، كأن يجعل الجمهور يصفق لهم بحرارة وربما يصيح بأعلى الأصوات معبراً عن إعجابه ونشوته، إن كان في اللحن الجميل أم بصوت أم كلثوم وأدائها الساحر، وهذا ما يدفع بعضهم الذي عمل على التجريب والتطوير في الموسيقا محطماً حاجز التقليد الكلاسيكي في التلحين، كالقصبجي والسنباطي، أما الشيخ زكريا أحمد الذي اهتم بالقصيدة والدور والطقطوقة والمونولوج الذي جاء به القصبجي، حرك الأحاسيس والمشاعر الغريزية بألحانه التطريبية في العشرينيات، حتى استطاع أن يجعل المستمع يصفق ويدبك بقدميه، ويصرخ متلهفاً للمزيد من الطرب المذكور، عكس ما عمل عليه المبدع القصبجي الذي صنع من موهبة أم كلثوم بأدائها وصوتها طرباً نفسياً، لا يستجدي فيه أحد بل عمل بشكل فكري ثقافي حينما عمل على اتحاد الكلمة واللحن بطريقة فلسفية ترغم المتلقي والمتذوق للسمع التأمل والتيقن في كل جملة موسيقية قبل أن يعبر عن ردة فعله بالتصفيق، ولعل هذا الأمر بالتحديد يعود فيه الفضل إلى من سبق زمانه بمئة عام على الأقل بألحانه الموسيقار «محمد القصبجي» ليتبعه السنباطي المتأمل الصوفي الناشر لثقافة هادئة في تأمل ألحانه.‏

استطاع القصبجي أن يجسد الطرب النفسي حينما قيد العرض الصوتي ولحنه خاشياً عليه أن يدخل خانة الطرب الغريزي، بل جعله تطريباً تأملياً ليكون من عداد الطرب النفسي وقد نجح بجدارة بذلك.‏

السنباطي من جهة أخرى أراد الدخول في هذه المعركة، التي تحتاج إلى كثير من الهدوء والثقافة والتأمل، فعمل على تفتيت التطريب الغريزي حينما قدم /غلبت أصالح/ ليبدأ تدريجياً بهذا النوع من التطريب النفسي، ثم /يا ظالمني/ الذي حقق نصراً جماهيرياً تجاوز فيه أسلوب زكريا أحمد، ليقدم بعدها /دليلي احتار/ ثم طقطوقة /الحب كده/ مستغلاً أسلوب زكريا أحمد ولكن بروح وطريقة سنباطية مستقلة، لينهي تطريبه الغريزي بلحنه /أروح لمين/ الذي كان القشة التي قسمت ظهر البعير، ليحمل راية هذا النوع من التطريب النفسي مع القصبجي.‏

بلا شك أن السنباطي والقصبجي قدما بألحانهما ثقافة جديدة حينما عملا على الارتقاء بالتطريب الغريزي في الخمسينيات والستينيات، وجعلوا الجماهير يتأملون ويفكرون، وينتقلون من التطريب الغريزي إلى النفسي دون انفعال، بل ترجمة لإدراك المعنى واللحن، ومشاركة مع الملحنين في القفلات خاصة لدى السنباطي الذي يعد مدرسة في قفلاته التأملية الأمر الذي جعل الكثير من الحضور يصفق له عند نهاية قفلته دون إحداث أي من ردود الفعل كما في /الأطلال، وأراك عصي الدمع، ومن أجل عينيك، وأقبل الليل/ لكن لم يكونا الوحيدين اللذين عملا في هذا المجال بل ركب مركبهما محمد عبد الوهاب، وفرض على جمهوره هو الآخر نصراً من وراء التجريب بألحانه عبر أم كلثوم، لكنه عمل كالسنباطي على الارتقاء بالجماهير ونجح بذلك وإن كان قد قصر عن السنباطي بالقصيدة.‏

تحدثنا عن تعامل السيدة أم كلثوم في مجال الطرب الغريزي والنفسي، ولو أردنا البحث لوجدنا أن فريد الأطرش كان قد حصل على الاثنين معاً حينما اعتمد أسلوب القصبجي التطريب النفسي في تأمل والتفكير الهادئ كما في /عدت يا يوم مولدي وحبيب العمر ونجوم الليل وعش أنت/ وغيرها. فهو لم يتعامل مع أم كلثوم لغاية في نفس أم كلثوم، لكنه قدم لها /وردة من دمنا/ إلا أنها رفضت بعد الموافقة وهذا تساؤل للزمن.‏

والسؤال هل بعد الطرب النفسي الذي يحمل انطباعاً خليقاً عند المتلقي من طرب؟‏

أخيراً لم يقف دور كوكب الشرق السيدة أم كلثوم عند حواس المستمعين بشدوها وإشاعة البهجة والمسرة في قلوبهم، إنما كان أعمق من ذلك بكثير من حيث السمو بأذواقهم والارتقاء بحسهم باختيارها الكلمات العذبة والمعاني الجميلة والأشعار المتميزة التي نظمها نخبة الشعراء المصريين والعرب وصاغ لها عمالقة التلحين والموسيقا أجمل الألحان لتبقى في ذاكرة وتاريخ الشرق العربي الكوكب المضيء في سماء الغناء العربي الأصيل، ذاكرة لا تمحى عبر السنين.‏

المراجع‏

كتاب الأغنية العربية للناقد والباحث الموسيقي صميم الشريف.‏

أم كلثوم كتاب وأسطوانة، للدكتورة إيزيس فتح الله والأستاذ محمود كامل.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية