تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


خالد الساعي...روحانيّة الخط المفعمة بالتعبير

الملحق الثقافي
19-2-2013م
د. محمود شاهين:خالد الساعي فنان تشكيلي سوري يقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ عدة سنوات، وهو متفرغ هذه الأيام في بيوت الخطاطين بالشارقة

. درس الرسم والتصوير في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، لكنه اتجه إلى اللوحة الحروفيّة التي عكف على إنتاجها برغبة ونشاط، وقدمها عبر أكثر من معرض فردي و جماعي، داخل سورية وخارجها. حصلت أعماله على العديد من الجوائز وبراءات التقدير منها جائزة البركة الدولية للخطاطين المحترفين في الدورة الأولى لفن الخط العربي، التي يرعاها البنك الإسلامي في اسطنبول.‏

يتحدث الفنان خالد الساعي عن إشادة بعض الفنانين الكبار أمثال «بيكاسو، بول كليه، وهوفر» بملكات الحرف العربي، وقول بيكاسو على وجه التحديد: «أردت الوصول إلى أقصى نقطة في فن الرسم، فوجدت أن الحرف العربي سبقني إليها، ومنذ أمد بعيد».‏

ويؤكد الفنان الساعي أنه يؤمن بالحرف العربي كابن له، وهذا ما جعله يرى منه عالماً صعب المراس، لكنه عميق ولامتناه. فهو صعب المراس لمن لا يكف عن طلب المزيد والمغاير من هذا الحرف، خلافاً لما جرى عليه الآخرون في الأخذ منه، وهو عميق لأنه عالم متكامل قائم بذاته، وينبغي فهمه شكلاً وإمكانيةً ودلالةً، لا على ما يحمل من معنى فقط.‏

ويشير الفنان خالد الساعي إلى أن الحرف العربي بناء وهندسة روحانية، كما حلل الكثيرون شكل البسملة الطويلة بخط الثلث، فهي تشبه المسجد بمئذنته وقبته وصحنه والطريق المؤدية إليه التي تتماهي بالشخص الذي يقف على ناصية الباء، ليأخذ السين ويدخل الميم «بسم» فكل مقام موسيقي، يوازيه نوع من أنواع الخط العربي. مقام الراست يقابل خط ديواني جلي، ومقام الحجاز يقابل خط التعليق الفارسي.. إلخ.‏

ويستعيد الفنان خالد الساعي قول الشاعر الفرنسي المعاصر «برنار نويل»: ما من لغة تملك خطاً تشكيلياً، يرتبط المعنى بالشكل فيه كاللغة العربية. الغنى الذي تم للحرف العربي جعله جسداً يتلون ويتشكل بإمكانية لامتناهية. فكلمة «حجر» التي يتحدث عنها «أوكتافيوث» بل يكررها في شعره، تتحول إلى ماء وسيل، وتتبرعم اخضراراً، وتنزل رجيماً. وبالمقابل بالحرف العربي، يمكنها حسب إيقاعها، وحسب دلالتها، أن تتقمص المعنى، وبالنتيجة لابد أن يلتقي المعنى مع شكله ويستدل عليه ضمن هذه المنظومة اللانهائية من الأشكال، وكل ذلك يتوقف على رهافة المبدع وحذاقته.‏

يقول الفنان خالد الساعي إنه يفر بنفسه إلى آخرها، ساحباً إياها إلى بدائيتها وعذريتها التي تنفر من تراكم الصناعة البشريّة، وليست المسألة بالنسبة له، عشق للطبيعة بمفردها، بل مُضافاً إليها الإنسان: جوهرها وقيمتها. وأعماله الفنيّة الحروفيّة، لا تخلو من حضور نفس الإنسان وشخصه أحياناً، لكن كما يراه مناسباً، ويبدو أنه يجنح إلى السكينة، ولا ينفك عن تهذيب الألوان والحرف حتى تبدو كالحقل الذي تمر عليه النسمات، كما تعود وتعبث به الرياح. ويؤكد الفنان الساعي أنه أحياناً يحاول أن يتخلص من حاله، ليتيح لنفسه تلوناً أكثر، ليكتشف وعورة النفس، على غرار ما لمس منها من حلم وصفاء، ويخشى ألا يكون إلا هو، لأن الآن وحدها، بغزارتها، تعني له الموت.‏

ويشير الفنان خالد السباعي إلى أن الخطاط يمر بمرحلة طويلة من التدريب، حتى ينفتح له الخط، وكأنه يُشرق من داخله، هندسة روحانية، وقد يفشل ولا يوفق أحياناً، لعدم جلاء أفق الخط له، وهذا له علاقة بحالة الصفاء الداخلية. أجمل الأعمال كُتبت بعاطفة ساخنة مباشرة، وهذا يُدعى بروحانية الخط الممتلئ بالتعبير.‏

خالد الساعي، وفي أعماله كافة، يريد للحرف أن يقول قولته الصرف، دون الاتكاء على المدلول الأدبي للنص الذي يُشكل مطباً للتناظر فيحيله بدرجة ما خارج جماليته المحضة. كما أراد أن يتفجر الحرف بتعبيره وتمدده، أن يخرج وينفلت حراً طليقاً مسؤولاً يحدد نفسه، وبالتالي نكون إزاءه تماماً، فهو يؤمن بالعمل الفني الشكلي غير المباشر، له شكل ومضمون، ولكن المضمون الحقيقي ليس موجوداً في العمل الفني، بل عند الإنسان المُشاهد الذي يشعر من خلال المشاهدة بقلق وارتياح، لذلك أراد للحرف أن يكون جزءاً غير مقيد للمشاهد بدلالاته اللغوية.‏

على هذا الأساس، فإن خطوط لوحات الفنان الساعي متحررة من الخط، لكن إذا وقفنا أمامها نجدها مستمدة من المبادئ الأساسية له. فالأساس ضروري. مثلاً «بيكاسو» عندما كان عمره أربعة عشر عاماً رسم الموديل بقدرة عالية، وبعد حوالي نصف قرن توصل إلى التجريد. من ذلك نستخلص تجربة نصف قرن، فهذه المسألة تتعلق في فهم الشكل وطاقته وأحياناً فهم ما نريد منه. قد نرى في لوحات فنان حشواً لأشياء كثيرة، وهذا مرده إلى عدم معرفته ماذا يريد من اللون والخط والهندسة وبناء اللوحة.‏

وبرأيه، الحرف والزخرفة فن شكلي ليس مهمته نقل الواقع بل محاكاته. ولقد بين أرسطو بنظريته «محاكاة الطبيعة» المهمة الحقيقة للفن الشكلي حيث قال: إن الفن الشكلي لا يعيد الواقع بل يأخذ قوانينه.‏

والحرف عنده مفهوم مفتوح، لا ينتهي بانتهاء الحياة، فهو رديف، في البدء كانت الكلمة «كن فيكون». الكلمة سابقة، وهي مستقر، أي الشكل يقع بين تجريدين: النطق والكلمة والصورة. وطالما الحرف مخلوق قائم، وليس مادة تشكيلية، بل مادة حية، وبوجود فنان له رؤى خاصة، ستكون متفردة عن الأخرى.‏

السؤال الذي يفرض وجوده هنا: هذه الرؤى والمفاهيم اللافتة للفنان خالد الساعي، حول الإمكانيات التشكيليّة والدلاليّة للحرف العربي: كيف أخذت طريقها إلى لوحته الحروفيّة؟ وبالتحديد لوحته الأخيرة التي انضوت في معرض فردي شهدته صالة المعارض في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق قبل مدة.‏

عموماً، تتسم هذه اللوحة بوحدة شكليّة ومضمونيّة وتقانيّة وأسلوبيّة متينة، وهذه اللوحة حصيلة ترحال تجاوز العشر سنوات، تنقل الفنان الساعي خلالها، بين العديد من بلدان الشرق والغرب التي نظم فيها ما يربو على عشرين معرضاً فردياً بدأها العام 2000 في صالة «أتاسي» للفنون بدمشق، وكان يومها قد غادر لتوه محترفات كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق.‏

في آخر معارضه الفرديّة في دمشق، قام الفنان الساعي بإنجاز بعض لوحاته مباشرة في صالة العرض، أمام الناس، برفقة الموسيقي السوري خالد الجرماني الذي قام بعزف بعض الألحان التي شكّلت مناخاً سمعياً، استلهمه الفنان الساعي، لإنجاز بعض الأعمال على إيقاعه، مؤكداً بذلك، على العلاقة الوثيقة التي تربط الحرف باللحن. مثل هذا الطقس، يلجأ إليه أيضاً، الفنان الحروفي العراقي المقيم في العاصمة الفرنسيّة باريس حسن المسعود، حيث يبدأ بتخيل الصورة الشعريّة التي يرسمها شاعر بكلماته فوق المسرح، أمام الناس، ثم ينتظر أن تفرض إحدى الكلمات نفسها عليه، كي يقوم بتكبيرها وإعطائها مظهراً جديداً، بعد أن يقوم بحساب الحروف المستقيمة، ثم الحروف المنحنية، ليستنهض منها تكويناً تشكيلياً متناغماً، تارة برفقة الشعر، وتارة برفقة الموسيقا.‏

برزت في الأعمال الأخيرة للفنان خالد الساعي، نزعة زخرفيّة أداها حشد من الحروف والألوان، شفيف أحياناً، وكثيف أحياناً أخرى، مع ملاحظة إدخاله مساحات هندسيّة بلون واحد، إلى معمار لوحته، بهدف البناء عليها وجعلها وسيلة ربط قوية لتجمعات الحروف والكلمات المتنوعة الدرجة والإيقاع اللوني والحركي، إذ تأتي تارة على هيئة تيار يدخل اللوحة من اليمين إلى اليسار، أو يطل على مساحتها من أعلى، مراوحاً في مكانه، وتارة أخرى، يعبر اللوحة من اليسار إلى اليمين، أو يقف في منتصفها، وقد تتقابل الحشود الحروفيّة في منتصف اللوحة، دون أن تلتحم ببعضها البعض، وإنما تقف عند حدود معينة. في أعمال أخرى، يحدث الصدام بينها، ليتولد انفجار يغطي كامل مساحتها، إنما بتنوع متدرج لحجم الحرف ولونه وموقعه في معمار التكوين الذي يبنيه الفنان من تجمعات حروف غير خاضعة لاتجاه معين، فهي أفقيّة، شاقوليّة، منتظمة ومقلوبة، تأخذ هيئة تيارات منسابة بسلاسة وهدوء، أو قد تتجمع على بعضها كالغيوم الماطرة الشاردة، أو المتصادمة، أو النازلة في الأرض كالساعة الرمليّة.‏

ولإبراز هذا التكوين، يلجأ الفنان الساعي إلى صيغتين. في الأولى يفرش عناصره من الحروف المتداخلة، فوق خلفية سوداء طلس، أو خلفية شفيفة مسحوبة من لون إحدى تجمعات الحروف «زرقاء، بيج، بني». وفي الثانية، يقيم علاقة فائقة الانسجام، بين العناصر المُشكّلة للتكوين، والخلفية الحاضنة لها، بحيث تغيب وتحضر الكتلة المتماهية في الخلفية، ضمن إيقاعات مدروسة بعناية شكلاً ولوناً وتوضعاً.‏

أما مضامين لوحات الساعي، فتقوم على نسخ نصوص معينة، منها ما هو مأخوذ من التراث العربي والإسلامي «جلال الدين الرومي، الحلاج، ألف ليلة وليلة، المتنبي» ومنها من الشعر الحديث، العربي والأوروبي «محمود درويش، سعدي يوسف، سان جون بيرس، رامبو، كلايتون إشلمان، أراغون، بودلير» وقد يستلهم هذه المضامين من مدن «دمشق، بريتيش في كولومبيا، أصيلة، سمرقند، طشقند، زيورخ، شيكاغو، قرطبة». غير أن عملية النسخ هذه، لا تقدم للمتلقي معاني ودلالات هذه النصوص، وإنما تضعه في جوها العام، ذلك لأن الفنان الساعي، حاول تجاوز اللغة المباشرة، وإقامة علاقة جديدة بين الكلمات التي يستخدمها في إقامة معمار لوحته ومعانيها، كما يلجأ إلى استخدام حروف منفصلة عن معناها في هذا المعمار، عبر تركيب تصويري ما حرر الخط العربي في لوحاته من اللغة العربيّة، تمهيداً وتوطئةً ليصبح هذا الخط لغة عالميّة، تماماً كما هي لغة الفن التشكيلي، والكاريكاتير الخالي من العبارات أو النصوص، ذلك لأنه أراد أن يأخذ من فن الخط العربي الذي يُتقن كتابته، الشكل التعبيري القريب من طبعه وتصوراته الفنيّة قدر الإمكان، سيما بعد أن أظهر له فن الخط العربي، بوصفه فناً بصرياً، أساليب جديدة تماماً، مؤكداً أنه يقف دوماً مسحوراً أمام رد فعل حواسه المختلفة، تجاه أساليب الفن المتعددة، وطريقة ارتباطها وتحاورها، فالشكل الجميل يدعوه إلى التحديث، وتُنشّط الكلمات المكتوبة ذهنه فتقوده إلى عوالم خياليّة. وبالنسبة له شخصياً، فإن صوت وتر القانون، يؤثر على حواسه تأثيراً يشبه تأثير المساحات الملونة لقطعة موزاييك جميلة، ولصوت قطرة ماء تسقط في فسقيّة دار دمشقيّة، مُستدركاً أنه يشبه أيضاً، نبرة صوتٍ يتكلم، أو صرير قلم ينداح فوق الورق. على هذا الأساس، فإن فن الخط بالنسبة إليه هو وسيلة التعبير الفني الذي يسمح له بإلغاء الفروق بين الفنون الجميلة والانطباعات الحسيّة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية