|
الملحق الثقافي وتتلمذ هؤلاء الرواد الشباب على كبار أدبائنا من الجيل الأول وتفردوا بالاتجاه الصادق لخلق رواية عربية تستهدف إبراز ما في تاريخنا العظيم من مثل عليا ينبغي أن تسير على هداها أمتنا في نضالها من أجل الحرية والاستقلال ونصرة قضايا العدل والحق والسلام،
وتستنير بها في كفاحها لبناء مستقبل متطور يليق بماضينا العظيم حين يعلي من شأن قيمنا الروحية العربية. وكان اتجاه للرواية التاريخية قد بدأ عند جرجي زيدان إلا أن اختلافه عن رواد الأربعينيات يكمن في أنه لم يكن يكتب سوى الحوادث الهامشية التي تمثل قصص الحب والغرام مطلقاً لخياله العنان في تجاوز الحقيقة التاريخية من خلال تجسيم الجوانب السلبية في بعض رواياته وبأسلوبه المشرق الجذاب. نجوم الرواية التاريخية أما نجوم كتابنا التي لمعت في سماء الأربعينيات المظلمة، فقد رموا إلى أن تكون أعمالهم مصابيح هداية في سماء أمتهم العربية متخذين من التاريخ ستاراً تنعكس عليه أحداث الأمة وواقعها المرير. وكل ذلك دعوة لانتشال الإنسان العربي من وحل الكوارث العالمية والهزات المحلية التي زعزعت كيانه وهدته، فالتاريخ إذن وسيلة يتخذها الفنان للتعبير عن رؤية معاصرة.
ومحمد فريد أبو حديد يعتبر البداية الحقيقية المتطورة في الكتابة التاريخية ذات الاتجاه الوطني والقومي. ورغم أننا نعتبره من الجيل الأول إلا أنه كتب بنشاط في الأربعينيات، وشارك مشاركة فعالة في حركة الرواد الشباب من الجيل الثاني أمثال عبد الحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير ومحمد سعيد العريان وعلي الجارم ونجيب محفوظ وغيرهم. يطرح أبو حديد رؤيته في فائدة اتجاه الكاتب الروائي للتاريخ حين يقول: «هناك مزية جديدة للحادثة التي تؤخذ من التاريخ، هذه المزية هي أن المصائر تقررت والحيوات انتهت والعظات وقعت والجزاء الطبيعي والحكم التاريخي قد استقر. عندئذ يمكن للفنان أن يجد أرضاً ممهدة لأن التاريخ قد وضع البداية والنهاية لكل قصة تاريخية. فعلى الكاتب أن يجوس في تلصص وتلطف وعمق خلال العلاقات البشرية في التاريخ». و»باكثير» في الجيل الثاني يكشف عن اتجاهه القومي والفني وعلاقته بالتاريخ فيقول: «لعل اهتمامي بالأمة العربية ذو أثر في ولوعي بالتاريخ واستلهامه.. على أن هناك أسباباً أخرى منها أن الفن عموماً ينبغي عندي أن يقوم أكثر ما يقوم على الرمز والإيحاء لا على التعيين والتحديد، فتكون الحقيقة التي يصورها العمل الفني أوسع وأرحب من الحقيقة التي يصورها الواقع، وأحداث التاريخ تعين الكاتب على بلوغ هذه الغاية أكثر مما تعينه أحداث الجيل المعاصر».
صدى الشعوبية هكذا كانت الرؤية واضحة والهدف محدداً عند باكثير والسحار وزملائهما وهو الاتجاه للفكر العربي من خلال الالتفات للتاريخ أو الفرعوني أو غيره، ما عدا نجيب محفوظ فإننا نرى أنه لم ينطلق من هذا المنطلق بل لم يكن له هدف واضح ومحدد. فقد كتب رواياته التاريخية الثلاث «عبث الأقدار» و»رادوبيس» و»كفاح طيبة» من التاريخ الفرعوني منساقاً وراء إعجابه بأدب سلامة موسى ودعوته إلى الفرعونية، فقد كانت للدعوات الشعوبية صدى كبير في ذلك الحين، ويتكرر هذا اليوم في محاولات لفصل مصر عن عروبتها. وكان نجيب محفوظ متأثراً بهذا النوع من العبث وعدم وضوح الرؤية. وقد اعترف بهذا في مقابلة له مع الناقد «فؤاد دواره» قال فيها: «حينما أعود بذاكرتي إلى هذه السنوات أجد أن باكثير والسحار لم يداخلهما أي شك في قيمة إنتاجهما ووجوب الاستمرار فيه فقد كانا ممتلئين بالتفاؤل. أما عادل كامل وزكي مخلوف فكان يعاني كل منهما من أزمة نفسية غريبة جداً طابعها التشاؤم الشديد والإحساس بعدم قيمة أي شيء في الدنيا.. كانا كأبطال «كامي» قبل أن يكتبهم». وربما لهذا السبب توقف نجيب محفوظ فترة عن كتابة الرواية التاريخية بعد رواياته الثلاث كما توقف عادل كامل بعد أن أصدر روايته التاريخية الوحيدة «ملك من شعاع» عن أخناتون رائد دعوة التوحيد. ومضت بقية القافلة تتناول في رواياتها جميع الحضارات التي نشأت على الأرض العربية ولكن بنظرة عربية بما فيها التاريخ الفرعوني نفسه. صدمة فنية وكان سير الرواية في هذا الاتجاه أكبر صدمة للحركة الشعوبية التي حاولت أن تتستر خلف الردة إلى الفرعونية. وقد بلور «باكثير» وجهة نظر إسلامية للقومية وللحضارات القديمة في كتابه «فن المسرحية خلال تجاربي الشخصية» حين اعتبر أنه لا فرق بين الحضارات الفرعونية والبابلية والفينيقية وبين الحضارة السبئية والمعينية في اليمن، فهذه الأمجاد التاريخية العظيمة ينبغي أن تضاف كلها إلى رصيد الأمة العربية وارثة هذه الحضارات كلها ووارثة الأرض التي نبتت فيها هذه الحضارات». وفي ضوء الإيمان بهذه الرؤية توزعت الأدوار بين كتابنا تلقائياً كل حسب إمكانياته وثقافته وتجاربه. فاتجه «أبو حديد» «الملك الضليل» و»المهلهل سيد ربيعة» وعرج على التاريخ العربي قبل الإسلام في «زنوبيا ملكة تدمر» وغيرها من أعماله. وقد تميز إنتاجه بالغزارة في الأربعينيات، أما علي أحمد باكثير فقد اتجاه للتاريخ الإسلامي في أوطانه المتعددة، فقد اهتم في رواياته «واإسلاماه» و»الثائر الأحمر» و»سيرة شجاع» بالمواقف التي تحتوي على صراعات ليدير حركتها بمهارة فائقة تعكس هذه الحركة على النفوس وعلى تطور الحدث. وقد اعتبره النقاد الامتداد المتطور لفن أبي حديد الروائي، وقد أعانه على ذلك ثقافته الإنجليزية ووعيه بالتاريخ، مغربلاً ذلك كله خلال روحه الإسلامية الصادقة. اتجاهات أخرى ومحمد سعيد العريان اقتصر على تاريخ مصر الإسلامية وخاصة في عهد الأيوبيين والمماليك في رواياته: «قطر الندى» و»شجرة الدر» و» على باب زويلة» وكانت شاعرية علي الجارم تكمن خلف وقوفه عند أعلام شعرنا القديم مثل ابن زيدون في رواية «هاتف من الأندلس» والمعتمد بن عباد في «شاعر ملك» والمتنبي في «الشاعر الطموح» و»خاتمة المطاف». وتحمل عبد الحميد جودة السحار عبء صياغة تاريخنا الإسلامي حين كتب السيرة النبوية في عشرين كتاباً أقرب إلى القصة في صياغتها، ولكنه في الأربعينيات تراوح بين التاريخ الإسلامي والفرعوني حين قدم رواية «أحمس بطل الاستقلال» و»أميرة قرطبة» وغيرهما. وعلى هذا الأساس فإن معظم كتاب هذا الجيل في الأربعينيات في اتجاههم لتأصيل الفن الروائي في أدبنا المعاصر كان يقودهم الحس القومي، هذا الحس النابع من تمسكهم بالروح العربية في انطلاقهم الوطيد بالروح. •• واليوم إذا نظرنا لحال الرواية التاريخية العربية بعد رحيل معظم روادها إلى جوار ربهم فإننا نجدها قد ماتت الآن تماماً ونحن في القرن الواحد والعشرين، فقد مالت إلى السكوت في وجود انطفأت شموعها فهل نشيعها إلى قبرها.. أم أنها بحاجة إلى بعث في ثوب جديد يتلاءم مع الظروف الصعبة التي تمر بها أمة العرب؟ وإذا كانت ظروف الأربعينيات قد اقتضت كاتب الرواية اللجوء إلى جوانب معينة من التاريخ فظروف اليوم ربما بحاجة إلى جوانب أخرى فهل من جيل جديد ينقب في رمال صحراء تاريخنا، ويقود قافلة الرواية التاريخية العربية بعد أن توقفت عن المسير في أعقاب تساقط روادها شهداء على الدرب الطويل؟ |
|