|
كتب
سأله أحد الأساتذة: (إنني عانيت زمناً طويلاً وأنا أبحث عن الفكرة الموحدة في عملك، فهل تشرح لي ما هي؟). شعر ليفيت بحرج إذ لم تكن لديه فكرة عن الفكرة الموحدة، وهو لا يعرف إن كان لديه فكرة موحدة أصلاً! تدخل آمارتيا صن، عالم الاقتصاد الهندي الشهير والحائز على نوبل، وقدم شرحاً مكثفاً وبسيطاً لما اعتقد أنه الفكرة الموحدة لدى ليفيت، الذي هب قائلاً: (نعم هذه هي فكرتي). ثم عرض أستاذ آخر فكرة أخرى نسبها إلى ليفيت، الذي عاد مرة أخرى ليؤكد: (أنت على حق هذه هي فكرتي)... وجرى اللقاء على هذا النحو، إلى أن قاطعهم الفيلسوف روبرت نوزيك بسؤال: (كم هو عمرك يا ستيف؟). أجاب ستيف: (ست وعشرون سنة). التفت نوزيك إلى زملائه قائلاً: (إنه في السادسة والعشرين من العمر، فلماذا يحتاج إلى فكرة موحدة؟ فربما سيكون من أولئك الناس الموهوبين فلا يحتاج إلى فكرة موحدة. سيأخذ سؤالاً ويجيب عنه وسيكون ذلك رائعاً). منذ ذلك الوقت وليفيت يمضي على هذا المنوال: يأخذ سؤالاً لا يخطر على بال أحد ليعثر على إجابة غريبة لكنها كاشفة ومنورة ويصعب دحضها. وإذا كان من الصعب العثور على فكرة موحدة في أبحاثه، فإن من الأصعب تحديد الاختصاص الذي تنتمي إليه هذه الأبحاث: الاقتصاد؟ علم الاجتماع؟ علم النفس؟ الجريمة؟.. ليفيت لا يعترف بالحدود بين التخصصات، ولا يتقن التمييز بين الأنواع، لديه شواغل خاصة تندرج في كل مجالات الحياة، ومع أن شهادته الأكاديمية هي في الاقتصاد، فإن زملاءه الاقتصاديين ينفون انتماءه إليهم، بل أنه هو نفسه يشكك بهذا الانتماء: (إنني لا أعرف عن المقاييس الاقتصادية ولا أعرف كيف تصنع النظرية. وإن سألتني إن كان انخفاض التضخم جيداً أم رديئاً، وإن سألتني عن الضرائب... أقصد أنه سيكون من الزيف لو قلت: إنني أعرف كل شيء عن تلك الأشياء). ما الذي يعرفه ليفيت إذاً؟ ما الذي جعله شهيراً في الولايات المتحدة لتنهال عليه الأسئلة والاستغاثات من كل الاتجاهات؟ يعنى الباحث الشاب بتفاصيل الحياة الصغيرة والمشاهدات اليومية التي نادراً ما تستوقف أحداً سواه. وإذا ما صح التعبير فإن العلم الذي يشتغل به هو علم (الأحاجي اليومية).. علم الأشياء المختبئة تحت (قشة)، وليفيت بارع تماماً في إزالة هذه القشة وكشف ما يختبئ تحتها من حقائق غير معروفة. يستوقفه مشهد عابر أو تشده واقعة سريعة، فيطلق سؤالاً، ثم يسلك طرقاً خاصة وغير مطروقة، مستخدماً البيانات والمؤشرات والجداول والأرقام وصولاً إلى الجواب.. وهذه البيانات والأرقام تساعده حتى في تلك الظواهر الإنسانية التي تبدو نائية تماماً عن عالم الأرقام.. وأسئلة ليفيت تشمل كل شيء تقريباً: (إذا كان تجار المخدرات يجمعون أموالاً كثيرة فلماذا لا يزالون يعيشون في بيوت أمهاتهم؟ وأيهما أخطر: المسدس أم حوض السباحة؟ وما هو السبب الحقيقي الذي خفض معدلات الجريمة في عقد التسعينات؟ ولماذا يسمي الآباء السود أولادهم أسماء قد تقلل من فرص عملهم؟ وهل يغش معلمو المدارس لمواجهة المعايير الامتحانية العالية؟ وما هي الطرق الخفية التي يغش بها مصارعو السومو؟...). لقد قدم جميع الخبراء إجابات خاطئة عن هذا السؤال: لماذا انخفض معدل الجريمة في الولايات المتحدة في عقد التسعينات من القرن العشرين؟ بعضهم عزا ذلك إلى إجراءات الأمن المشددة، وبعضهم قال إن السبب يتعلق بتغيرات تجارة السلاح، ورأى آخرون أن المسألة تتعلق بنجاح حملات التوعية والتثقيف، وبالطبع كان الاقتصاديون حاضرين بأجوبتهم الجاهزة: ارتفاع معدلات النمو وانخفاض مستوى الفقر... ليفيت نفى كل هذه الإجابات واختار واحدة مختلفة تماماً: إن السبب هو القانون الذي صدر في أواخر السبعينات وأتاح الإجهاض للأمهات الراغبات بذلك. وما هو الرابط العجيب بين الأمرين؟ من خلال البيانات توصل الباحث الشاب إلى تحديد البيئات الاجتماعية التي خرج منها معظم المجرمين الذين روعوا حقبة ما قبل التسعينات. ومن خلال بيانات أخرى توصل إلى أن هذه البيئات نفسها هي التي شهدت الكثير من حالات الحمل الخاطئ، حيث الكثير من النساء اللواتي لا تتيح لهن الظروف المعاشية تربية أولادهن تربية سليمة، ومع ذلك فقد اضطررن، بسبب القانون الذي كان سائداً حينئذ، إلى الاحتفاظ بالأجنة، ومن ثم المجيء بهم إلى حياة بائسة. كثير من هؤلاء الأطفال الذين جاؤوا رغماً عن أنوف أمهاتهن البائسات، صاروا مجرمين بمستويات مختلفة.. وعندما صدر القانون الذي يسمح بالإجهاض تغير الوضع وقلت احتمالات ولادة المجرمين. ببساطة: لقد انخفض معدل الجريمة لأن كثيراً من المجرمين كفوا عن المجيء إلى هذا العالم! كتاب (الاقتصاد العجيب) هو ثمرة حوار مطول بين ستيفن ليفيت، ومحرر (نيويورك تايمز) ستيفن دوبنر، وفيه الكثير عن طريقة ليفيت في التفكير التي تتبدى في حله للكثير من هذه (الألغاز اليومية الصغيرة). الكتاب صادر عن دار العبيكان بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، ونقله إلى العربية محمد شريف الطرح. |
|