تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«ثلج» ملون لمكسنس فيرمن

كتب
الأربعاء 16-2-2011م
يعد مكسنس فيرمن الأكثر إثارة للانتباه في الجيل الشاب من الروائيين الفرنسيين، فهو مؤلف رواية الكمنجة السوداء عام 2000 ورواية النحال عام 2001 اللتين قوبلتا بالاهتمام والترحاب من الجمهور والنقاد ،

أما ينج (ثلج) فهي روايته الأولى وقد ظهرت عام 1998 حيث تجري أحداث هذه الرواية القصيرة في اليابان ذات الحس المرهف، نهاية القرن التاسع عشر بعد بداية عهد ميجي.‏

يعيش يوكد أكيتا في جزيرة هوكايدو في شمال الأرخبيل حيث الشتاء هو الأطول والأقسى مما هو علية في كافة أرجاء إمبراطورية الشمس المشرقة ، إنه في السابعة عشرة من العمر ويتمنى أن يصبح شاعراً، على غير ما يريد أبوه، الكاهن اشنتو الذي يرى أن الشعر ليس سوى «الماء السائل» وأنه ليس سوى مضيعة للوقت، أما الشاب المفتون بالثلج والبياض، فقد عكف في الواقع على فن الهايكو الصعب على تلك القصائد اليابانية القصيرة المؤلفة من ثلاثة أبيات وسبعة عشر مقطعاً وأقبل شاعر من البلاط فشجع الشاب على مواصلة أعماله، ونصحه من أجل إتقان فنه أن يتوجه إلى سوزيكي، وهو محارب ساموراي قديم يرغب البطل يوكو في أن يصير شاعراً، على الرغم من التقاليد ومن إرادة أبيه، وسوف يمجد الثلج بقصائد الهايكو، إنه يطمح إلى الكمال وهو ذو طبع عنيد يطمح إلى العزة فلا بد من أن يكون جديراً بها، والفن ينبغي أن يكون كاملاً، فيدفعه ذلك إلى التوجه نحو الجنوب لاستكمال فنه على يد رجل عجوز اسمه سوزيكي.‏

يعتقد سوزيكي أن «الشاعر الحقيقي يمتلك فن السير على السلك المشدود، وأن الأمر العسير على الشاعر إنما يتمثل في البقاء باستمرار على ذلك السلك الذي هو الكتابة وأن يعيش كل ساعة من حياته على مستوى الحلم، وألا ينزل أبداً ولو للحظة واحدة، من على حبل تخيله .‏

لقد اكتشف سوزيكي في العمى أن النور الحقيقي والألوان الحقيقية تظل مرتبطة أبداً ببهاء الروح، كما قبض على ناصية النور وتلوناته، انطلاقاً من غياب النور، ونراه على الرغم من الألم والعمى يتخذ منطلقاً جديداً ليغدو ( المعلم)، يعرض مكسنس فيرمن ضمن إطار حكاية غير واقعية تقريباً، موضوعات راهنة دون التريث عندها طويلاً، التقاليد، العشق، الوفاء، الشعر، الفن ويختلط الشعر والعواطف والفلسفة في تناغم موسيقي ساحر، فتشكل باقة منوعة، أما الثلج الكلي الموجود على طول الحكاية فيبرز على نحو خاص في اللحظات المهمة والحاسمة من القصة ونشعر بالصدمة أحياناً من اختلاط الشعر بواقعية قاسية، إلا أن الغنائية السائدة تمضي بك نحو عالم سحري.‏

إن «نيج» حكاية بوح وإطلاع على أسرار الشعر، وهي حكاية فاتنة، لغتها مقتضبة ومضيئة ، أما كتابة مكسنس فيرمن، فهي هشة وبيضاء مثل الثلج الذي تلازم عذوبته ولونه الشاب يوكو، ولا يعثر داخل كيانه على الألوان الضرورية لفنه، ولا على الضياء إلا عند نهاية سفره ونهاية التعليم الذي اكتسبه على يد العجوز سوزيكي ، ويثبت الكاتب روايته في جمالية قصائد الهايكو التي ترقم الكتاب وتقدم صورة جميلة للمجتمع الياباني في ذلك العصر، صورة عالم يتجابه فيه العنف والعذوبة في مواجهة يومية تساهم في تجديد قوى الحياة،‏

من الرواية:‏

تلك الصورة هي صورة امرأة فتية متوازنة على سلك، امرأة فتية خفيفة كعصور، بهلوانة تمشي برشاقة سنجاب فوق النهر الفضي، كانت على ارتفاع يتجاوز ستين قدماً عن الأرض، لم تكن تمشي على حبل، بل كانت واقفة في الهواء سحراً، أما الذي يلمحها من بعيد واقفة فوق سلك غير مرئي حاملة عصا التوازن بيديها، تنزلق بنعومة فوق زرقة السماء، فيحسبها ملاكاً، اقترب سوزيكي من النهر متمهلاً، فسبى حسن المرأة الفتية تجعله كانت المرة الأولى التي يشاهد فيها أوربية ، بدت طائرة في الهواء، وارتبك ، فتقدم أكثر وتجمع على الضفة جمهور حاشد ليشاهد العرض العجيب ، واقترب سوزيكي من رجل عجوز فسأله وعيناه لا تزالان تنظران إلى فوق .‏

جاءت من باريس، من فرنسا وكانت تدعى نيج (ثلج) أطلقوا عليها ذلك اللقب لأن بشرتها بيضاء ناصعة كالثلج وعينيها كالجليد، وشعرها بلون الذهب ولأنها كانت تبدو وهي تتحرك في الهواء رشيقة في خفة نديفة ثلج. بدأ الأمر معها على هذا النحو فذاك يوم وكانت لا تزال طفلة تلاقى دربها مع سيرك جوال ففتنت بأن تقوى على أن تحلم وعيناها مفتوحتان وقررت من غير أن تقيم وزناً للخطر، أن تجعل ذلك مهنتها واختارت بعد شيء من التردد أن تصبح مشاءة على السلك، وأخذت في الارتقاء تدريجياً والصعود أعلى في مجال إتقان فنها، وعلى هذا أصبحت واحدة من النساء البهلوانات، لقد صعدت على حبل ولم تنزل عنه البتة.‏

أصبحت نيج بهلوانة بدافع الحرص على التوازن فهي التي كانت حياتها تمضي مثل خيط كثير الالتواءات ، تتخلله العقد التي تربطها وتحلها تعرجات المصادفة ورتابة الحياة، تتألق مجلية في الفن الرهيف والخطر القائم على التحرك والمناورة فوق حبل مشدود.‏

ولم تكن قط تشعر بالراحة مثلها وهي تمشي على ارتفاع ألف قدم فوق سطح الأرض، تتقدم باستقامة من غير أن تنحرف عن دربها يوماً مقدار مليميتر واحد كان ذلك قدرها، أن تتقدم خطوة، خطوة، من بداية الحياة حتى النهاية.‏

غزت نيج بمآثرها ساحات أوروبا كلها وحين بلغت التاسعة عشرة كانت قد قطعت مايربو على مئة كيلو متر فوق حبلها المشدود مخاطرة في الأغلب بحياتها لم تكن مجرد بهلوانة، كانت تتقدم في الهواء سحراً.‏

أما الذين يشاهدونها من أبعد نقطة بجسدها المنتصب مستقيماً على صفحة السماء مثل شعلة بيضاء والريح تداعب شعرها الذهبي، فكانوا يحسبونها إلهة الثلج.‏

أما في الحقيقة فلم يكن الأمر الشاق لديها أن تظل متوازنة ولا أن تسيطر على خوفها، ولا كذلك أن تواصل المشي على ذلك السلك الموسيقي المتقطع بدورات مبهرة ، لكن الأكثر مشقة، وهي تتقدم وسط نور العالم، تتحول إلى نديفة ثلج .‏

الكتاب: ثلج- رواية - الكاتب: مكسنس فيرمن - ترجمة: عبود كاسوحة، صادر عن دار المدى.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية