|
شباب للسرعة والسهولة في التعامل مع مفردات الحياة ,فالكثير من شباب هذا العصر يميل إلى قراءة الشعر الجديد أو ما يسمى بشعر التفعيلة بينما يصعب عليه الاطلاع على قصيدة جاهلية أو عباسية فنزار مثلا هو شاعر الجيل بامتياز بينما يعد مثلا أبو نواس وأبو تمام من الشعراء الذين يكتبون ما لا يفهم (على حد قول بعض الشباب) وهذا لا يعني الإساءة إلى نزار ولكن يعني ثقافة مضمحلة لدى بعض شباب هذا العصر و التي تجعلهم محدودي الرؤية والخطوة في مجال ضيق يخلقه الوافد والعابر دون أن يتعبوا أنفسهم بإلقاء نظرة على ما هو أصيل وقديم على ما لا يحتاج إلى الكهرباء والبنزين ليعمل, بل يتطلب حقيقةً مخيلة خصبة, فنلجأ إلى الحديث والعصرية, إلى موسيقا تفتقر إلى الموسيقا نبتعد أحيانا عن أوطان انتماءاتنا إلى ما يسمى عتبة الحضارة والتطور , نفضل عالما افتراضياً مع من لا نعرف تاركين خلفنا أصدقاءنا وعائلاتنا الذين هم أولى بأن نعرفهم ونمضي معهم جزءا من وقتنا, ننتقد أهالينا ونتمرد على محاولتهم مشاركتنا حياتنا...ألا يستحق هذا الانسلاخ عن جذور عمرها آلاف السنين تقديم مبررات ووثائق على أرض الواقع تثبت حقا أنّ الإنسان صار يستحق هذا التطور. وأن نتأكد أننا الآن نعيش الحياة الحقيقية لا حياة أولئك الذين يتابعون الحياة من خلف الكواليس وألا نكون مجرد ببغاوات تردد ما يقال و تشتغل في انتقاد الآخرين والماضي والتراث والأمل والتشدق على الثقافة واللون المختلف واللهجات ونمط لباس. ولكن ما يثير الاستغراب أنّ بعضنا لم يكتف فقط بنقد التاريخ والماضي والتبرؤ منه بل أخذ بالإساءة إلى الحضارة وتشويهها حيث لا يمكنك تجاهل بعض المظاهر التي تطغى على عصرنا الحالي والتي قد تثير غضب الراقدين والقدماء على هذا الوقت الذي وصلنا له ...فأثناء مروري بالسوق لفت انتباهي محل لبيع اللحوم كتب على لافتة تعلوه وبخط كبير (ملحمة أبو العلاء) شردت قليلا وأخذتني مخيلتي إلى مكان آخر حيث أبو العلاء المعري هذا الشاعر العباسي الذي أمضى حياته ممتنعا عن تناول اللحوم وقتل الحيوانات رفقا بها ولأنها برأيه تمتلك الإحساس بالخوف والألم مثلها مثل الإنسان لهذا أمضى عمره كله دون تناول اللحم مكتفيا بتناول منتجات نباتية معبرا عن أفكاره تلك في قصائده مدافعا حتى عن أصغر الكائنات ( البرغوث) , ولكن إذا كنت تتساءل أو تعتقد أن الرابط ما بين لافتة المحل وبين هذا الشاعر العباسي هو الاسم فأنت مخطئ لأنني أعتقد أن الرابط هي مسافة إنسانية شاسعة قد تقطع صلتنا بما هو حقيقي , ما أثار حفيظتي في هذه المفارقة أنّ أخبار مصادرة اللحوم في محافظة (....) كان بالأطنان حيث استطاعت مؤسسة التموين أن توقف كميات من اللحوم المجهزة للتوزيع في الأسواق وهي فاسدة غير صالحة إلا للتلف ولكن بالرغم من ذلك فإن بعض الباعة والتجار (أولاد الحلال) سمحت لهم أطماعهم بالإقدام على مثل هذه الخطوة التي تضر بصحة الناس بل وقد تودي بحياتهم . . كل ما في الأمر أنني أتساءل لو أتيح لأبي العلاء المعري الذي انقطع عمراً عن تناول اللحوم رفقا بالحيوانات أن يعبر الزمن إلى هذا السوق ويرى اسمه مطبوعاً على لافتة وبخط عريض إلى جانب كلمة (ملحمة) هل سيفتح فاه؟ وهل سترتسم علامات التعجب والرفض والاندهاش على وجهه؟ وماذا سيحدث له لو علم أن هناك احتمالا في كون هذا اللحم فاسداً؟, وأن الكثير يتناوله وهو مغمض العينين؟ وأن بعض أولئك الذين فقدوا إنسانيتهم صاروا يصنعون من حليب الأمهات مثلجات؟ هل سيصرخ أبو العلاء غاضباً من مفارقات الزمن التي جعلت اسمه يقرن بتلك اللحوم الفاسدة؟ هل سيتبرأ من حضارتنا هذه كما يتبرأ البعض من تراث القدماء ومن عادات أهل ربونا حتى صرنا اليوم هنا, علما بأن لدى أبي العلاء كافة المبررات (على عكسنا) والتي تجعله يرفض العيش بين بعض المنتفخين المتباهين بالحضارة وبأسلوب لا يقبله حتى من لم يمتلك الكهرباء والإنترنت والسيارات الفاخرة,هل علينا أن نحمد الله أنّ العلماء لم يستطيعوا حتى الآن أن يكتشفوا آلةً لعبور الزمن، لأن هذا سيحفظ ماء وجهنا أمام انتقادات القدماء لما قد سيرونه يجري اليوم هنا في حال عبورهم الزمن إلى القرن الواحد والعشرين أم نحمد الله أكثر لأنه سيدفع عن أجدادنا تأنيب الضمير والأخذ بتلك المقولة «مع الحكيم لن تفسد ومع الفاسد لن تكون حكيما» وشعور بالخوف من هذه الرحلة التي يشوهها الإنسان إلى حيث لا ندري؟ |
|