|
الملحق الثقافي - انظرْ.. انظر يا نور.. خالتو.. هذا مَطر.. مَطر. قالتها بفرح، وغنّتْ له، شبه راقصة « مَطرْ.. مَطرْ.. مَطرْ.... بالنعمةِ انهمَرْ.. بالعشبِ، والثمَرْ.... مَطرْ.. مَطرْ.. مَطرْ..».
بَرَقتْ عيناهُ الصغيرتانِ، وهي تكرّرُ الترنيمة، منتشيةً، وتشرحُ له، بسعادةٍ غامرة، كيفَ ينزلُ المطرُ «الماء» «من عند اللهِ» على الأرضِ، ليسقي الوردةَ.. فتشربُ حتى تشبع، ويرتفعُ ساقها نحو السماءِ، ليصلَ قبالةَ وجهِ الصغيرِ. تضمّ أصابعها الخمسة، ثمّ تفتحها ببطْ، لتصبحَ وردةً مُتفتحة. - يا نور.. الوردةُ تتفتحُ لتقولَ لكَ: - صباح الخير، نوّارة. وتكرّرُ التمثيليّةَ، فتفرحُ قلبَ الصغيرِ ذي الاحتياج الخاصّ. لم يعُدْ يخافُ من البرقِ، والرعد، بل صارَ يشهقُ سعيداً، كلما بَرَقَ النورُ، وهَدَرَ الصّوتُ، واشتدّتْ سرعةُ الرياح. أخذتْ شفتاهُ تتحرّكانِ، في محاولاتٍ متكرّرة، لترديدِ الترنيمة. احتاجَ لنصفِ ساعةٍ، حتى استطاعَ أن يغنيها، وهو يقفزُ قدرَ استطاعتهِ، صارخاً بصوتٍ يشبهُ صوتَ رجلٍ في الرابعة عشرة من عمره. طارتْ من الفرح. لقد أثمَرَتْ مساعيها. ثمّ، ها هي ترتجفُ من قصفِ الرعدِ المفاجئ، دونَ أن تُظهرَ أيةَ ارتكاسة أمامَ الصغير المُنتشي. - أمي.. أمييي.. يا أميييي..!! - نعم، يا أمي. - تعالي.. اقتربي مني.. خلّيكِ قربي. - تكرَم عينك يا أمي. ها أنا قربكِ، أجلسُ على السرير. هل يؤلمكِ اهتزازُ السرير؟ - لا.. لا.. قليلاً.. أنّّّتِ العجوزُ أنّّّاتٍ مُتطاولة.. أرجَحَتِ الابنةُ كفّ والدتها الجافة. فرَكتها بكفها الطرية. مَسَحَتْ على وجهها.. خدّيها، وذقنها، وجَبهتها.. رأسَها ذي الشعرِ الناعمِ، الذي لم يبيَضّ منه أكثرَ من نصفهِ، رغم تجاوزها الحادية والثمانين من عمرها. هيَ في التاسعة والخمسين، تصبغُ شعرها منذ أكثرَ من عشرةِ أعوام، حتى لم تعُدْ في رأسها شعرةٌ سوداء، أو كستنائية، لولا ذلكَ الصباغ اللعين، الذي ابتُليَتْ به، كتقليدٍ للأخريات. جاءَ الصغيرُ ليطمئنّّ على جدّته: - خاتّو.. سو..؟! سو.. تاتا..؟! - لا شيء، ياخالتو.. لا شيء، يا حبيبي.. ضُمّها.. ضمّها، يا نور.. يأخذ الصغيرُ بتقبيلِ جدّته.. كفها.. خدّها.. ورأسها.. حتى الوسادة التي تحملُ رأسها.. والبطانية الصوفية التي تدثّرها. - «سامتك تاتا.. سامتك».. - ألله يسلمك، يا حبيبي.. يخفتُ صوتُ الأنينِ تدريجياً. ثمّ لا تلبثُ أن تهدأ، وهوَ يمرّ بأصابعهِ الناعمة، على وجهها المجعد، الناشف. تمنحُ الأصابعَ الصغيرةَ قبلةً.. أو، قبلات.. ثمّ تفتحُ عينيها، لأولِ مرّةٍ هذا اليوم. تتمتمُ، وهي ترنو إلى وجههِ المتضاحك: - عيني.. عيني نوّارة الغالي. عيني قلبه هالحنون. تتهلّلُ أساريرُ الصغير - الشابّ.. وهو يرى جدّتهُ بخير.. يحاولُ أن يحكي لها قصةَ المطرِ، والزهرة التي تقولُ له، صباح الخير.. يرقصُ.. يرقصُ، وهو يردّد الترنيمة. تعالى صوتُ المكبّرِ، من مئذنةِ الجامعِ المقابل للقرية: - ألله أكبر.. ألله أكبر.. ألله أكبر.. «ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً.. بل أحياءٌ عندَ ربهم يُرزقون» صدق الله العظيم.. انتقلَ إلى رحمةِ اللهِ تعالى الشهيد البطل فلان بن فلان.. من قرية ، كذا.. وسيُشيّعُ جثمانه الطاهر، في الساعة كذا، من بعد ظهر هذا اليوم.. للفقيد الرحمة.. ولكم الأجرَ والثواب.. ويُنوّهُ الصوتُ إلى الساعة التي ستجتازُ جنازةُ الشهيدِ القرية.. ليجتمعَ الناسُ على جانبيّ الطريق.. ينثرونَ الورودَ، والأرز.. ويزغردون.. يبكونَ.. ويدعونَ له بالرحمة.. ولكلّ شهداءِ الوطنِ الغالي.. ولأهلهِ، وأهلهم الصبرَ الجميل. - «أللهمّ رُدّ كيدَ الظالمينَ، إلى نحورهم».. «ألله يحمي الجيش».. «ألله محَيّي الجيش».. قد تكونُ هذه الجنازة، عاشرَ جنازةِ شهيدٍ من أبناءِ تلكَ القريةِ الصغيرة.. يا ألله.. ما أشدّ فقرهم! الحمد لله.. أمهُ متوفاة.. وأبوهُ المُقعَدُ بالشللِ النصفيّ منذ عدةِ أعوام « يُلغلغُ « بكلماتٍ نادبة. شعَرَ مَن حوله بمعانيها الحارقة.. عجْزٌ.. وفقدان.. آااااااااه..!!.. آااااه.. يا أحمد!! .... يا ربّ العرشِ العظيم.. قرآنٌ كريمٌ أيضاً؟! شهيدٌ آخر لقريةٍ أخرى؟! ألله يرحمهم أجمعين. لم يعُد الأمرُ غريباً، لكنهُ مازالَ قاهراً يحفرُ في الروحِ، والوجدان بعُمقٍ خارق.. لماذا؟! لماذا يُقتلُ الحبَق؟! لماذا؟! في وطنه.. وبين أهله.. من دِجلة.. إلى المتوسط.. ومن طوروس.. إلى الأردن.. ولبنان.. وحدود الوطن المُحتلّ.. كلهم أهله.. فمَنِ الذي قتلَ الحبق؟! بالتأكيد، ليس الأهل.. إنهم أعداءُ الحياة.. دخلوا هذا الترابَ الطاهرَ على غفلة.. أو، على خيانة.. تحصلُ في كلّ البلدان. قاهرٌ هو الفراق، لكنّ الموتَ حقّ، والشهداءُ لا يموتون، بل، يروونَ هذا الثرى بعَبَقِ محبتهم، وطهرِ أرواحهم.. لهم المجدُ والخلود.. ولهذا الثرى، الذي يضمّهم، ويحضنونه. رغمَ أنه زمنُ قطافِ حباتِ الزيتون.. مَواسم الخير.. إلاّ أنّ بعضَ أشجارها أزهَرَتْ في الخريف، هذا العام.. أو، ربما تابعَتْ إزهارَها بغزارةٍ أكبر، من حوالي عامين، غامضينِ، داميين. كنا نراها أزهاراً حمراءَ تخضرّ حينما تتشكّلُ ثمارُها الغضّة.. حتى زيتونُ بلادي، يحتفلُ بميلادكم، يا أبناءَ هذه الجبال العامرةِ بالطيبِ، والمحبّة. جارتنا.. جثتْ على ركبتيها الثمانينيتينِ المتهالكتين وهي تقبّلُ علمَ البلادِ الذي لَفّ جنازةَ ابنها الشهيد.. ضمّ أشلاءهُ المُقطّعة.. «- ألله يرحم روحك يا عيسى.. راح الغالي.. راح.. راح مَسند ضهري.. راح.. كنت ناطرتك تتجي تاخدني لعند الدكتور يا عيسى.. ضهري مكسور يا إبني.. آااااااااااااااااااخ يا ماما.. دخيلكوووون.. دخيلكن شوّفوني اياه! دخيلكن.. هادا الحنون.. الحنون.. الحنون.... آاااااااااااخ.. يا إمي.. ألله معك.. ألله معك.. ألله معك يا بَييي.. بيعينني ألله.. بيعينني ألله.. بيعيـــ.....» - خاتّو.. خاتّو.. خاف.. خاف.. أنا خاف.. ألله يرحمو سهيد..!! - لا.. لا تخفْ يا حبيبي. لا تخفْ يا نووور.... الشهيد عند ألله فرحان يا خالتو.. اضحكْ.. يا نوّارة.. عند الله.. مبسوط.. غَنِّ معي: «مَطرْ.. مَطرْ.. مَطرْ.. بالنعمةِ انهَمَرْ..». |
|