تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


سانت بيتربورغ..حكاية فينيسيا الشمال

الملحق الثقافي
12-2-2013م
عباده تقلا - عندما التقيت بمدينة سانت- بيتربورغ لأول مرة في بدايات شتاء عام 2004، كان ثلجها في أقصى حدود انفعالاته، يطوق جسدها الشمالي،

ويحجب معالمها عني أنا الغريب الممتلئ عشقاً وانتظاراً مجنوناً دفعني لأمسح زجاج الحافلة وأمسح معه سنوات انتظاري الطويلة، تلك السنوات التي أمضيتها أطارد أخبار بيتربورغ على شاشات التلفزة وأوراق الجرائد وصفحات الأنترنت.‏

قرأت مرافقتي الروسية الشابة تلك اللهفة المتقدة في عيني وجسدي، فقالت بلغة عربية تتلمس طريقها إلى الإتقان: «كشفتك بيتربورغ عاشقاً، فخبأت حسنها لتزيدك اشتياقاً!».‏

أطربتني العبارة، فصححت أخطاءها اللغوية منتشياً. ابتسمت الصبية وقالت: «ألم تنتبه في المطار إلى عبارة: لينينغراد مدينة بطلة؟».‏

أجبت: «نجحت بما أعرفه من اللغة الروسية في قراءة العبارة وفهم دلالتها وإشارتها إلى صمود المدينة في وجه النازية في الحرب العالمية الثانية».‏

صوبت وجهها نحو المدينة وتابعت بحماس: «إنها مصدر فخر وعشق لأبنائها، وستبقى كذلك دائماً».‏

انقطع حديثنا لحظة وصولي إلى السكن الجامعي، فافترقنا على أمل لقاء قريب، لأبدأ يومي الأول في رحلة اكتشاف المدينة.‏

حكاية مدينة شابة‏

في شمالي غربي روسيا، على نهر نيفا، تستريح مدينة بيتربورغ فوق عدد كبير من الجزر، ما جعلها تشتهر بلقب فينيسيا الشمال.‏

مدينة شابة كما يحلو لأبنائها أن يطلقوا عليها، وهم محقون في ذلك كون القيصر الروسي بيتر الأول قد بدأ في بنائها في عام 1703، وانتهى منه في عام 1712، لتصبح منذ ذلك التاريخ عاصمة لروسيا، وتستمر هكذا حتى عام 1918.‏

أما اسم المدينة فقد تعرض للتغيير ثلاث مرات، ففي البداية سماها مؤسسها بيتر الأول سانت- بيتربورغ وهو يعني مدينة القديس بيتر، وفي عام 1914 أصبحت تدعى بيترغراد، وفي عام 1924 وتحديداً بعد موت لينين أطلق عليها اسم لينينغراد، وهو الاسم الذي بقي مرافقاً لها حتى عام 1991 عندما استعادت اسمها الأول سانت- بيتربورغ.‏

تجتمع في بيتربورغ عناصر الجمال الروسي والأوروبي، فهي شبيهة جداً بالعاصمة الإيطالية روما، إضافة إلى مدينة برشلونة الإسبانية وباريس الفرنسية في بعض ضواحيها، والسبب في ذلك أن المهندسين الأوربيين هم من قاموا ببنائها.‏

و تعد اليوم العاصمة الثقافية لروسيا، أو العاصمة الثانية كما يسميها البعض. مدينة متاحف يصل عددها إلى أكثر من مئتي متحف، الكثير منها في أبنية تاريخية. أشهر تلك المتاحف متحف الآرميتاج الذي أسس في عام 1764 وفتح للعامة في عام 1852، وهو يتوضع على كورنيش نهر نيفا، ويمثل القصر الشتوي الذي كان المقر الأسبق للقيصر، الجزء الأساسي في بنائه.‏

كما تعد بيتربورغ موطناً لحدائق كثيرة، أقدمها الحدائق الصيفية التي ولدت لحظة ولادة المدينة، وهي مصممة بأسلوب منتظم، وتتميز بمنحوتاتها الجميلة والقصر الصيفي لبيتر الأول والذي عاشت فيه الأسرة القيصرية.‏

إضافة إلى حديقة الانتصار التي تمجد الانتصار على النازية عبر تماثيل لأولئك الذين صنعوا ذلك الانتصار، تماثيل تشعرك برهبة حقيقية وأنت تمر من أمامها فلا تملك إلا أن تلقي عليها وعلى أصحابها تحية إجلال واحترام.‏

أما شوارع المدينة فهي متحف كبير يحكي قصة أبنائها عبر تماثيل لأولئك العظماء الذين خلدوها وخلدتهم، وفي مقدمتهم بيتر الأول الذي بنى المدينة فبنى له أبناؤها الكثير من التماثيل لعل أشهرها هو تمثال الفارس النحاسي.‏

شارع نيفسكي هو أشهر شوارع المدينة، شارع يضج بالحياة ويغص بالمتاجر الضخمة، كما يحوي أكبر مكان لبيع الكتب يطلق عليه «بيت الكتب».‏

أما أبرز تقاليد المدينة الممتعة فهو مهرجان الموسيقى الذي يقام في الليالي البيضاء، ويصادف في شهر حزيران ممتداً عشرة أيام، ومشتهراً بألعابه النارية الأخاذة وعروضه الحاشدة احتفالاً بنهاية السنة الدراسية.‏

ولعل أكثر ما يستمتع به الغريب هو البقاء مستيقظاً في تلك الليالي البيضاء. أذكر أن صديقي المغربي الأمازيغي الذي لم يعتد تناول القهوة العربية أصبح من مدمنيها بعد أول فنجان قدمته له في أول ليلة من ليالي بيتربورغ البيضاء. تلك الليالي التي تبدو مساحة لسهر متواصل ونهارات تستحم بالضوء.‏

في ضيافة دوستويفسكي‏

احتضنت بيتربورغ منذ نشأتها الكثير من المشاهير الروس من كتاب ورسامين وموسيقيين وشعراء، من أمثال ميخائيل لامانوسف الذي أسس أول جامعة في روسيا، وكان كيميائياً وفيزيائياً وجغرافياً ورساماً وشاعراً اختصر بوشكين عبقريته بالقول: لقد كان لامانوسف جامعة في حد ذاته.‏

إضافة إلى الموسيقي الشهير تشايكوفسكي ومينديليف وبوشكين وغيرهم من المشاهير الذين تحولت شققهم التي عاشوا وعملوا فيها إلى متاحف يؤمها عشاق فنهم وإبداعهم ومقدرو علمهم من جميع أصقاع الأرض.‏

عملاق الرواية الروسية دوستويفسكي واحد من أولئك العظماء الذين احتضنتهم بيتربورغ في أواخر أيامهم.‏

كنت كلما مررت من أمام تمثاله المتوضع أمام محطة الميترو المسماة باسمه، والقريب من الجامعة التي درست فيها اللغة الروسية، كان الرجل يرمقني بنظرة تحمل الكثير من العتب واللوم. في البداية اعتقدت أنه يلومني بسبب تقصيري الشديد في قراءة أدبه مقارنة مع ما قرأته لكتاب روس آخرين. فاندفعت أستعير من الطلاب السوريين كل ما في حوزتهم من أعماله، لكن نظرة العتب لم تتوقف حتى فهمت أنها تحمل لوماً آخر يتعلق بتأخر زيارتي لشقته التي فارق الحياة فيها في عام 1881. بدا وكأنه يقول لي: دقائق فقط تفصلك عن البيت الذي عرف آخر أنفاسي، فهلا قمت بزيارته أيها العربي المولع بالأدب والسينما؟‏

أومأت برأسي، ومع أول يوم عطلة كنت أزور الشقة بصحبة صديق يدرس التصوير السينمائي.‏

تزامن وصولنا إلى الشقة مع وصول وفد إيطالي بصحبة مرافقة روسية. اقتربت المرافقة من باب الشقة بهدوء ثم دقت الجرس مبتسمة، والتفتت لتخاطب الوفد بلغة إيطالية: لا يمكننا الدخول قبل استئذان الكاتب الكبير!‏

كانت تلك اللفتة الذكية قادرة على انتزاع إعجاب وتعليقات الوفد الإيطالي، أما أنا وصديقي فقد تبادلنا الابتسامات لندخل الشقة بعد ذلك ونحن أكثر ثقة أن الكاتب الكبير وزوجته آنا في انتظارنا.‏

مع تجوالنا في الشقة كنا نحس بأنفاس دوستويفسكي تملأ المكان. يخيل إلينا أن نوبة الصرع الأخيرة جاءته في تلك البقعة. نقترب من مكتبه، نمعن النظر في آخر أوراقه التي كان يكتبها على أمل التقاط شيء من محتوياتها، ثم نلتفت لنقاط الحبر المرمية بألم على الورق. أحسسنا بآنا تقف إلى جانبه وتخفف عنه، بينما هو يشكو من الحاجة إلى المال التي تضطره للاستعجال في إنجاز رواياته.‏

تعليقات كثيرة من الزوار، وشروحات من المرافقة الروسية، بينما أقترب من النافذة، أتأمل الشارع وأتساءل في سري: ما هي الأشياء التي كنت تبصرها يا دوستويفسكي بينما أعجز أنا عن التقاطها؟‏

ودعنا المكان على أمل زيارة ثانية إلى شقة الرجل الذي لم تعد نظرته في صباح اليوم التالي تحمل شيئاً من اللوم، بل بدت مغلفة بابتسامة صغيرة محمّلة بالكثير.‏

في ساحة الفن‏

غير بعيد عن شارع نيفسكي الشهير، وفي مركز مدينة بيتربورغ، تقع ساحة جميلة، متوسطة المساحة يطلق عليها اسم ساحة الفن.‏

ولقد سميت بذلك الاسم كونها تضم الكثير من المعالم الفنية والثقافية، ففيها مسرحان ومتحفان وقاعة كبيرة للاستماع الموسيقي. هي باختصار ساحة للقاء الفنون: الموسيقا، الباليه، الأوبرا، التصوير، النحت والدراما.‏

كما يتوضع في وسط الساحة تمثال الشاعر الكبير بوشكين الذي أمضى سنواته الأخيرة في مدينة بيتربورغ في منزل على نهر مويكا. ولقد تم تدشين التمثال في التاسع عشر من حزيران عام 1957، ويحمل توقيع النحات الشهير آنيكوشين، ويمثل الشاعر في لحظة إلقاء قصائده. والطريف في الأمر أن حمائم بيتربورغ أدمنت الوقوف على رأس الشاعر ويديه، وكأني بها تتوق إلى إضافة شيء من شاعريته إلى وداعتها وحنوها.‏

أما البناء الأضخم في الساحة فهو للمتحف الروسي الوطني الذي تجتمع فيه نفائس الفن الروسي، ويتردد عليه سنوياً أكثر من مليون ونصف المليون زائر. ولعل أكثر ما لفت نظرنا كطلاب في أثناء زيارتنا للمتحف هو لوحة الفنان الروسي الشهير إيفان إيفانوفيتش شيشكين، ذلك الفنان الذي مات في مرسمه وترك لوحة شهيرة حملت عنوان «الدغل المعد لصناعة السفن» وكانت موضوعاً لإحدى محاضرات اللغة في جامعتنا.‏

ويجاور المتحف الروسي الوطني متحف الإثنولوجيا المكرس لعرض ثقافة الشعب الروسي على اختلاف العصور.‏

والجدير بالذكر أن المعماري العظيم كارل روسي الذي بنى الكثير من أبنية بيتربورغ الجميلة، ترك آثاراً كثيرة في ساحة الفن، تلك الساحة التي ترحب بزوارها وتمنحهم فرصة الاستراحة في مقاهيها الصغيرة بعد جولتهم الثقافية المميزة.‏

على إيقاع الوداع‏

آخر ما حفظته ذاكرتي من ملامح بيتربورغ رائحة مطرها الصيفي المجنون، امتداد محطة قطارها، برفقة الهواجس التي بقيت معي وأنا ضائع في مقعدي أفكر في مدينة الليالي البيضاء المتألقة بسر نورها الأبدي في صيفها اللامتناهي، بفردوس بيتر الأول الذي أراد له أن يكون أعظم مآثره وسبب خلوده، بالمظهر الصارم الرشيق، كما رآها بوشكين، وبيتر كما يحلو لساكنيها تسميتها.‏

ثم أطلقُ تنهيدة طويلة وأرددُ: تبدو بيتربورغ كما وصفتها مدرّسة اللغة الروسية، مدينة شبيهة باللغة الروسية من حيث كونها تأبى أن تمنحك نفسها بسهولة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية