تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حدود اللغة الشيفرات الروحية الأكثر عمقاً

الملحق الثقافي
12-2-2013م
حاتم حميد محسن-«الإنسان القديس ينسحب ليس فقط من إغراءات الفعل المادي، وإنما من الكلام أيضاً. لجوؤه إلى كهوف الجبال أو إلى دير الرهبان هو الاشارة الخارجية لصمته.

وحتى الذين هم مجرد مبتدئين في هذا الطريق الشاق يتعلمون كيفية الارتياب بستار اللغة واختراقه إلى لغة أكثر واقعية يمكنها التعامل فقط وبشكل هادف مع جزء خاص ومقيد من الواقع. أما المتبقي، وهو الجزء الأكبر افتراضاً هو الصمت»»1».‏

«كأني ومن خلال اهتمامي بالأدب، استخدمتُ كل الرموز الممكنة دون أن أدرك في الواقع معانيها. إنها لم تعد لها أي أهمية لي.. حضارة الكلمات هي حضارة الاضطراب. الكلمات تصنع الالتباس ... ليست هناك كلمات لأعمق التجارب. كلما حاولت توضيح نفسي أكثر، قلّ إدراكي لها. بالطبع، ليس كل شيء لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، إنما فقط الحقيقة الحية»»2».‏

في بعض الميتافيزيقا الشرقية كالبوذية والطاوية، يُنظر إلى الروح كارتقاء من المعوقات السيئة للمادة عبر عوالم التبصر التي يمكن نقلها من خلال اللغة النبيلة والدقيقة نحو أعماق الصمت. إن أعلى وأنقى مدى للفعل التأملي هو ذلك الذي خبر كيفية ترك اللغة وراءه. إن ما لا يمكن وصفه بالكلمات يقع وراء حدود الكلمة. فقط عبر اختراق جدران اللغة يمكن للطقوس الأسطورية أن تدخل عالم الإدراك الكلي والمباشر. وحالما يتم بلوغ مثل هذا الإدراك، لم تعد الحقيقة بحاجة للمعاناة من حالات التلوث والتشظي التي ينطوي عليها الكلام بفعل الضرورة. إنها لا تحتاج إلى الامتثال للمنطق الساذج والانطباع الخطي المندغم في الجملة. في الحقيقة النهائية يتجسد وفي وقت واحد كل من الماضي والحاضر والمستقبل. إن البناء المؤقت للّغة هو الذي يجعل تلك المديات تبدو وبشكل مفتعل كأنها بعيدة المنال. هذه هي النقطة الحاسمة.‏

«.. القليل جداً من الشعراء الغربيين – ربما فقط دانتي – تمكّن من إشباع قوة خيال الخبرة الماورائية. عند النور القريب من الجنة، نحن نقبل بعمى العين وبالفهم قبل الرؤية الكلية. لكن باسكال كان أقرب إلى شعور التيار الكلاسيكي الغربي حينما يقول إن صمت الفضاء الكوني يثير الرعب. بالنسبة إلى الطاوي، يوحي هذا الصمت ذاته بالهدوء وبحميمية الله».‏

إن سطوة الكلمة التي يمكن قولها وإيصالها في المحادثة، هي خاصية للعبقرية الإغريقية التي انتقلت فيما بعد إلى المسيحية. إن المعنى الكلاسيكي والمسيحي للعالم يكافح لتنظيم الواقع ضمن حاكمية اللغة.‏

الأدب، الفلسفة، الثيولوجي، القانون، فنون التاريخ، تسعى جاهدة لربط حدود الخطاب العقلي بمجموع الخبرة الإنسانية وبماضيها المكتوب وظروفها الحالية وتوقعاتها المستقبلية.‏

قانون روما القديمة وخلاصة توما الإكويني وتاريخ العالم وأدب القرون الوسطى والكوميديا الإلهية، كلها محاولات للاحتواء الكلي. إنها تحمل شهادة رائعة للإيمان بأن كل الحقائق والوقائع باستثناء هامش صغير في أعلى القمة يمكن خزنها داخل جدران اللغة.‏

هذه العقيدة لم تعد عالمية. الثقة بها بدأت تتراجع بعد عصر ملتون «Milton». أسباب وتاريخ ذلك التراجع يلقي المزيد من الضوء على ظروف اللغة والأدب الحديث.‏

تعود لغة شكسبير وملتون إلى مرحلة من التاريخ كانت فيه الكلمات ضمن السيطرة الطبيعية للحياة المعاشة. الكاتب اليوم يميل إلى استعمال أقل وأبسط الكلمات، بسبب أن الثقافة الجماهيرية أضعفت مفهوم المعرفة، وكذلك بسبب الانخفاظ الحاد في مجموع الحقائق التي يمكن فيها للكلمات إعطاء وصف كاف وضروري.‏

هذا التقهقر المتمثل بعجز الصورة الرمزية للعالم the image عن إبلاغ الكلمة كان له تأثيره البالغ على نوعية اللغة. وبما أن الوعي الغربي أصبح أقل اعتماداً على مصادر اللغة في تنظيم الخبرة وتسيير مهام الفكر، فإن الكلمات ذاتها فقدت جزءاً من حيويتها وانضباطها. هذه هي الفكرة الشائكة. إنها تفترض أن اللغة لها «حياة» بذاتها تتجاوز الاستعارة. ذلك يعني أن مفاهيم مثل الضجر والفساد هي ملائمة للّغة ذاتها وليس فقط لأستخدام الإنسان لها.‏

في التعامل مع اللغة الإنجليزية أثناء التاريخ التيودوري والإليزابيثي والجاكوبي هناك معنى الاكتشاف والاكتساب الغزير الذي لم تتم استعادته أبداً. كل من مارلو «Marlowe» وباكون وشكسبير استخدموا كلمات كأنها جديدة، كما لو لم يحصل أي أثر أخفى بريقها أو حبس رنينها.. هذه هي الكيفية التي نظر بها القرنان السادس عشر والسابع عشر للغة ذاتها. إن أعظم كنز للّغة كان يكمن قبلهما، ولكن فجأة جرى افتتاحه، ونهبه وفق إحساس بالموارد المحدودة. إن الأداة التي في أيدينا الآن، استُنزفت بالاستعمال الطويل، وأصبحت تؤدي وظائفها برداءة متزايدة بسبب متطلبات الثقافة الجماهيرية والاتصالات الواسعة.‏

ما تبقّى من أنصاف الحقائق والتبسيط الرديء وتوافه الأشياء، يمكن في الواقع، إيصاله إلى الجماهير شبه المتعلمة التي تستدعيها الديمقراطية الشعبية إلى أماكن السوق. يمكن لمعظم هذه الاتصالات أن تصبح فعالة فقط عبر اللغة الفاسدة والهابطة.‏

الموسيقى والعبور الماورائي‏

من الثابت أن اللغة لها بالفعل حدودها، التي هي في تماس مع حدود ثلاثة أنماط أخرى من البيان وهي الضوء، الموسيقى، والصمت، وهو ما يعطي دليلاً على وجود متعال في نسيج العالم. ذلك لأننا لا نستطيع الذهاب أبعد من ذلك، لأن الكلام يخذلنا جداً لدرجة أننا نتلمس معنى اليقين الإلهي وهو يتجاوزنا ويحتضننا. إن ما يكمن وراء كلمات الإنسان هو بلاغة الله. ذلك هو الاعتراف البهيج المنهزم المُعبر عنه في قصائد St.John حول الصليب والتقاليد الصوفية.‏

«حيثما تتوقف كلمات الشاعر، ينبلج الضوء العظيم..».‏

هناك اعتراف متكرر من الشعراء وخبراء اللغة، بأن الموسيقى هي الشفرات الروحية الأكثر عمقاً، وأن اللغة حين يتم الإمساك الجيد بها، تطمح إلى ظروف الموسيقى وتُجلب عبر عبقرية الشاعر، إلى عتبة تلك الظروف. ومن خلال الارتخاء التدريجي لأشكالها المتعالية، تكافح القصيدة للهروب من القيود المصممة منطقياً ودلالياً وخطياً في الجملة اللغوية نحو ما يعتبره الشاعر لعبة حرة متزامنة وفورية للشكل الموسيقي. في الموسيقى يأمل الشاعر بأن يجد حلاً للغز فعل الخلق الخاص بالخالق، موسيقى تحمل شكل روحه، متجددةً بلا نهاية لدى كل مستمع.‏

المصادر‏

«1» معظم الاقتباسات الواردة هي من George Steiner، اللغة والصمت: مقالة حول اللغة، الأدب، واللاإنسانية «نيوهافن، مطبوعات جامعة يال، 1998، ص 12،13،25- 27،39،41 «.‏

«2» Eugene Ionesco،Fragments of a Journal.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية