|
كتب حيث وجد صواني الطباعة لآلة التيبو غراف التي كتبن عليها الأخوات الثلاثة: «واحدية, معينة, نظمة» سيرتهن وضمناَ الجد والوالد وشخصيات أخرى لكن جوهرية جداً كفنجان أبو نصيحة, شقاوة النجف وحسنعلي باكوبكي والقبطان عباس وسفينته المسماة بغلة عباس الذي وصل الجد عليها كنسّابة خيول ليصبح بعدها نسّابة بشر. وهذا بدوره, أي باشيرو, يسند في كثير من كلامه للمترجم العراقي الذي يؤمن له الوثائق عن تلك الأخوات وجدّهن السيد أصغر أكبر وابنه خنصرعلي. بالطبع مرتضى كزار وإنْ لم يذكر ذلك, فقد حصل على رسائل أ. باشيرو مع تيبانتوس أراغونيس الذي يفترض فيه أن يحول السيناريو الذي كتبه أ. باشيرو لفلم وبما أنّ الرواية قد ظهرت في عام 2011 وكاتب السيناريو أ. باشيرو غادر العراق في 2006 ولم يظهر فلمه في دور العرض إلى الآن لربما بسبب موته في ساحة المعركة ضمن قبور مدينة النجف حيث وجد صواني الطباعة وعليه أخذ المترجم العراقي هذه الرسائل وباعها كغيرها من وثائق البلاد لتصل ليد الروائي مرتضى كزار ويخرج علينا بروايته: السيد أصغر أكبر. الشجرة السابقة لكتبة الرواية لا تختلف عن أشجار الأنساب الذي برع بها السيد أصغر أكبر منذ قدومه للنجف واستقراره في بغلة عباس و بيت الشرايك ليدفن فيه كما تقول الجدة رومية: إنّه دفن في سرداب البيت. لم تجد الأخوات الثلاث قبر الجدّ ولكنهن وجدْن حروف الطباعة وأكياس البن والصواني فأخذن يصفن حكايتهن بطريقة معكوسة تقتضيها تقنيات الطباعة وحكاية الجد النسّاب العظيم وابنه خنصر علي الذي يصر على تزوجيهن من شجرة عائلته رغم أنّ تنبؤات الجد بشجرة عظيمة الأغصان لم يجد خنصر علي رجلاً واحداً يزوجه أحدى بناته وهكذا بقيت الأخوات في عنوسة كسرنها بأشجار عشق. واحدية وجدت بشجرة نسب مجنون أحد الأغصان, خلفاً لتعشقه وتكتب يوميات عشقها على أوراق الروزنامة والحيطان, فهو جندي يقاتل على الحدود ومعينة أحبت مذيعاً للصم والبكم كان يرسل لها رسائله على جلد البوالين تنفخها فتقرأ رسائله ونظمة معلمة مدرسة...الخ والأم شمخة زوجة خنصر علي هربت مع مخرج مسرحية بعنوان: أنكيدو يصعد النخلة. كل الشخصيات في الرواية تملك رغبة عارمة بالتأريخ؛ إذ كلّ منهم له نظريته في الشجرة التي يتفرع منها. بعد الذي يتقدم يصبح السؤال جاهزاً. بما أنّ الإنسان كائن وجهه للمستقبل لماذا يغويه الماضي أكثر؟. هل لأن غموض المستقبل يدفعه باتجاه طمأنينة المعرفة المفترضة في الماضي أم كما قال أحد الحكماء: الإنسان شجرة تمشي بالمقلوب أو كما قال أفلاطون: المعرفة تذكر. مهما تكن الإجابة أفضّل إجابة فانسون جوف, بأن الرواية ليست متخيلاً يسترفد من متخيلات أخرى بل هو نص يؤلفه الراوي مستنداً للواقع كأحد معطياته وهذا لا يعني أنّها انعكاس للواقع بل الواقع هو مرجع دلالي للرواية. الواقع كدلالة معرفية يبتعد كزار عن التاريخ الرسمي ويوغل في التاريخ الشفوي وحكاياه لينجز رؤيته لمدينة النجف وضمناً العراق عبر ثلاث شخصيات رئيسة بدءاً بالجد وانتهاء بالأخوات مروراً بالأب خنصر علي وبذلك يغطي تاريخ العراق الحديث من الاحتلال العثماني وصولاً للاحتلال الأمريكي وما حصل بين هذين الاحتلالين. هذه المراوحة بين الشخصيات واعتماده على الهامش المنسي من التاريخ سمح له بالتهكم والسخرية وجعل الفوق الطبيعي هو المتن ويتجلى ذلك بنظرية الجد عن أشجار النسب التي كان يقتطع منها أو يضيف حسب رغبة الزبون وقدرته على الدفع حتى أنّه وفق الوثائق التي تملكها الأخوات, فهن يملكن الكثير من البيوت في النجف التي تحصل عليها الجد مقابل صناعته لأشجار أنساب ترضي من يطلبها سواء بترجعيه كخلف لأنبياء أو قادة عظام في التاريخ أو ليصبح سلفاً لأجيال لاحقة في المستقبل سيكون لها شأن عظيم. لم تكن أشجار السيد أصغر أكبر إلا نموذجاً عن التاريخ المكتوب أو الرسمي. إذ يشبه الجد سلطة عليا تكتب فقط ما تريد عن التاريخ الذي سيحتضن المستقبل. يخلفه الابن لكن مع إظهاره الكره لعمل أبيه حتى أنه غير كنيته ومع ذلك كان يصرّ على حضور مؤتمرات النسابة وهنا يأتي دور الرد على ما سبق بأن يثور المستقبل على الماضي وأشجاره عن طريق الأخوات العوانس باهتمامهن بالهامش دون المتن أو لنقل بالظلّ الذي قتل البغلة الحالمة في قصة أحد تلاميذ نظمة. تهدم بيت بغلة عباس بالقصف وعندما ذهبت الأخوات للبحث عن بغلة عباس لم يجدن أحداً يعرفها وكانت حكايتهن قد اكتملت وصواني الطباعة جاهزة وفي بحثهن وجدّن الحبل الذي خنق الظلّ البغلة فيه. شجرة العنعنة تعتبر العنعنة إحدى وسائل البحث في التاريخ لتأكيد المصداقية وكأن قضية السلف والخلف صانعة للهوية والمجد والسلطة ودونها يُفقد الأثر ويندرس. ألم يأمر رئيس البلاد الأخوات بأن يصنعن نسبّه كما يريد!؟. ألم يفعل مرتضى كزار كما فعل خنصر علي بإصراره على تزويج بناته من شجرة نسب خاصة وعليه عندما لم يجد تحولن بناته إلى بائرات عقيمات مقطوعات الخلف؛ لقد فعل مرتضى كزار ذلك متهكماَ من القارئ الذي سيبحث عن حقيقة روايته في التاريخ الرسمي رغم أنّ هذا التاريخ صنعة كأشجار السيد أصغر أكبر الذي يحمل اسمه سخطاً عارماً من موضوعة الأسماء حيث الأسماء جذور المعرفة كما تقدمها حكاية البشرية في متنها التاريخي. أليست عودته إلى أسطورة أنكيدو وهروب شمخة زوجة خنصر علي أو سمخا كما في الأسطورة, غانية المعبد الذي بعثها جلجامش لإنكيدو جبّاَ لكل سمات البلد وعودة بها إلى ما قبل الجذور لربما شيء يتغير!؟. يبدو مرتضى كزار قاسياً جداً وخاصة أنّه يعطي رأس السرد لهذا المدعو أ. باشيرو لكي يستنطق التاريخ العراقي وأكثر يُسمي قاعدته العسكرية في النجف بالأندلس جنّة العرب الضائعة ويكتفي بأن يرد اسمه على غلاف الرواية فقط وكأنّ العراقي لم يبق له من شجرة العراق إلا الاسم أو حروف معكوسة ضائعة, سمّاها أخطاء مطبعية تفتك وتقتل بأوامر من راعٍ ما هو إلا كتلة من الخطوط غير المتعينة المزدحمة المتشابكة كعصف مأكول. لكن أ. باشيرو والسيناريو خاصته عن الأخوات لم يظهر أبداً والذي ظهر هو رواية مرتضى كزار وكأنه يقول الكلمة النهائية هي للعراقي دون عنعنة أو تأريخ سلطة بل سيرة هؤلاء الظلال الذين سيقتلون البغلة وكل أشجار الأنساب ليبقى البلد لحاضره ومستقبله. السيد أصغر أكبر رواية تؤسس لسرد خاص في المشهد العراقي الروائي يقوم على تأريض الغرائبي والفوق طبيعي. واقعية سحرية تمتح خصائصها من صلب بيئة العراق بكل أطيافها: التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية والدينية. حيث العودة للشفاهي الحرّ أو التاريخ غير المدون الذي لا يمكن لسلطة أن تأسره لقدرته على الهمس والصراخ وقدرته على استجلاب الحيوات الزمانية والمكانية بغمضة عين لحقبات كثيرة. رواية تستحق التوقف طويلاً عند مفرداتها وخاصة أن البعد التأويل والدلالي ينفتح على أفاق كثيرة, تشتغل السخرية والتهكم دوراً كبيراً بشحنها بالطاقة اللازمة لحمل هذه المضامين. السيد أصغر أكبر رواية لمرتضى كراز صادرة عن دار التنوير لعام 2012 |
|