تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


فرصة العمر

الملحق الثقافي
الثلاثاء 15-5-2012
قصة: نصر مشعل:ما إن أغلق أحمادو بوابة دكانه حتى فاجأته زوجته صفية، بخبر ولادة عنزتهم لجدي كبير.. لم يأبه لهذا النبأ، فما معنى أن تنجب عنزته جدياً؟

زوجة أحمادو صفية، امرأة على درجة من البلاهة والبساطة، دعت زوجها مساء لتريه انتفاخاً يشبه ضرعاً حقيقياً وقالت له بدون أدنى استغراب: «هالجدي رح يحلب لما بيصير تيس» ألوى أحمادو حنكه بسخرية، وعلَّق قائلاً وهو يخرج: «هادا سرطان.. رح يموت بعد يومين..».‏

بيد أنه افتكر بعد زمن لهذه الحادثة أن كمية الحليب التي يحملها إلى دكانه تعادل أضعاف مقدرة عنزة حلوب واحدة!! مما دفعه لمراقبة زوجته عبر كوَّة الإسطبل الخارجية، وصعق لذاك المنظر الغريب وراح يرتجف وهو يرى بأم عينه كيف تقوم زوجته بحلب التيس الذي تتدلّى من بين قوائمه ضرع بحجم بطيخة كبيرة!! واصطكت ركبتاه ولم يقو على الوقوف، وراح يحبو على أربعته، ثم اجتاحته نوبة اختلاج باردة، وبقي متدثِّراً باللحاف ثلاثة أيام متتالية، وفي هذا قالت له زوجته وهي تتمخَّط بطرف منديلها فيما هو يرتجف:‏

- ألم أقل لك إنه يحلب أكثر من بقرة؟‏

أحمادو أخبر عمه التسعيني «أبو عزام» المشهور بحكمته، دخل إلى الزريبة بظهر محني، وهو يدب على عكازه، وضع فمه على ضرع التيس وأخذ يمتص الحليب، وفجأة سقط على الأرض وراح يرتعش، وفقد وعيه وحين استفاق انتفض بقوة شاب عشريني، وانتصب ظهره، ثم ركض بأقصى سرعة خارج البوابة، واختفى عبر الحقول، ولم يعد بعدها.‏

وقالت صفية لزوجها: إنها مذ شربت حليب التيس لم تعد تتبوَّل في فراشها.. وبعد فترة جاءت ابنة أحمادو العاقر لتزف على والديها نبأ حملها بعد زواج سبعة أعوام، وعزت الأم ذلك لحليب التيس، ثم نقلت النبأ إلى نسوة الحي.‏

••‏

هذه التفاصيل المذهلة سوف يتناقلها أهالي البلدة، كما ذكرت وبحرفيتها، مضيفين إليها زركشاتهم الخاصة، وانتشرت كالنار في الهشيم، وستتوالد مع مرور الأيام معجزات أكبر من تلك، ولم يتأكد أحد ما إن كانت تلك الوقائع حقيقية أم مجرد حبكة لشائعة نمت مع تواتر الأيام، حتى أحمادو نفسه استهجن كل تلك التفاصيل دون أن يظهر للآخرين ذلك، ولكنه كان يهز رأسه للأسفل بأسى، مؤكداً صحة كل ما كانوا يسألونه عنه دون أن ينبس ببنت شفة.‏

والحق يقال إن ابنة أحمادو العاقر ولدت صبياً جميلاً بعد تسعة أشهر، وكان أنفه يشبه أنف جده أحمادو «أفطس» لكنّ أذنيه تشبهان أذني جدته «مقنشات».‏

وأكدت صفية لجاراتها أنها شفيت تماماً من داء السلس البولي، وأن خالتها السمينة التي تعاني من آلام ركبتيها قد غدت على أحسن حال، وتبقى حادثة العم أبي عزام الذي لم يعد أحد يراه منذ تلك الشائعة، ويقال إن أحمادو أكَّد لبعض زبائنه أن عمه قد شرب من حليب التيس فاستقام عموده الفقري، وتجدّدت قدرته الجنسية والجسمية وفرعت أسنانه مجدداً، وتزوَّج من ابنة إحدى العائلات المهاجرة في كندة، وقد رحل معها إلى مقاطعة كيبك بالتحديد ليبدأ حياته من جديد!!‏

••‏

لمس أحمادو ازدياد عدد زبائنه كثيراً، ورأى وجوهاً غريبة عن البلدة!! حتى أنهم من بلاد عربية مجاورة!! ولم يعد أحد يشتري من حانوته إلا الحليب! وازدحم حانوته مع مرور الأيام، وتدافع الزبائن، ووقعت مشاجرات عنيفة في أحد الأيام، وعندها قام بشراء خمس بقرات حلوب، أودعها سراً زريبة أخيه.. وسوف يشتري تباعاً عددا أكبر من البقرات مع ازدياد حماقة الناس.. قائلاً - إنها فرصة العمر!!‏

وعزَّز هذه الشائعة الذهبية أخوه الأصغر.. بشكل يفوق الوصف عن طريق دجّالين استأجرهم، إذ أكَّد أحد الصلعان لزبائن مقهى البلدة بنمو شعره مجدداً، ورفع القبعة عن رأسه بسرعة ليريهم زغابات سوداء، بالفعل راحت تغزو صلعته، وشمّر رجل آخر كان مصاباً بداء البرص، عن ساعديه السمراوين وعرضهما على جميع الحضور قائلاً: الحمد لله الذي سخَّر لنا هذا التيس المبارك.‏

كان أحمادو يتوقع ضمنياً نتائج تلك الشائعات الغوغائية، ولكن رابعة الأثافي كانت عندما سمع أحداثاً غريبة حصلت مع ظهور التيس المعجزة!!‏

ولم يعد أحد يأبه بكم يشتري كوب الحليب، فقد أخذ المزاد مجراه الطبيعي حين راح الناس يتدافعون ويزايدون على ثمن الكوب، الذي بلغ ثمناً خيالياً، وفرّغ أحمادو دكانه من كل شيء ليتسع لطناجر الحليب الضخمة، ولم يعد المكان بقادر على احتواء هذا الكم من الناس، فصنع أخوه شبكاً حديدياً، وأقام ممراً أوحداً، لضبط الحمقى، وكوّة صغيرة كافية لمد يد واحدة وإخراج كوب حليب واحد... وعبر مدخل خلفي كانت عبوات الحليب المقدس تتدفق سراً!!‏

ولم يبلغ التيس شهره العاشر حتى كانت أعداد النساء العواقر والمشلولين والمعلولين والصلعان والشيوخ الطامحين لتجديد نعوظهم يفوق تعداد سكان الحصن.‏

ولم تنتبه السلطات المحلية إلا متأخراً لظاهرة غريبة تحدث على الحدود، حيث معابر قدوم المسافرين والسائحين من البلاد المجاورة، فقد علَّق القادمون عبوات بلاستيكية على نوافذ سياراتهم بكميات كبيرة، وعلَّق أحد السائحين وهو يرتدي جلباباً أبيض، ويعتمر حطاطة بيضاء وعقالاً، مدَّ رأسه من نافذة سيارته الجيمس الصحراوية قائلاً بلهجة بدوية:‏

- «هاذا التيس ملك الأمّهْ، وحنّهْ ما نسمح باحتكارَهْ، وآني رح أعرظْ هاذا الأمر على الإمير، لمناغشتَهْ، وطرحَه على جامعة الدول العربيّهْ» وخلال خمسة أشهر أصبحت البلدة من أكبر المناطق السياحية.‏

••‏

هذه الأحداث رواها أحمادو للجنة مرسلة من قبل وزارة الداخلية، مهمتها معرفة الحقيقة، ومن ثم ترحيل التيس إلى العاصمة لدراسة جيناته، وقد استقبل اللجنة بحفاوة بالغة، ونحر على شرفهم الذبائح، وبعد أن شاهدوا الحشود المزدحمة أمام دكانهم، طلب من اللجنة أن تتبعه، اتجه إلى الزريبة من فوره، وعندما فتح بوابتها الصغيرة الداخلية، شاهد الجميع التيس، كان تيساً شامخاً، يعرف أهمية نفسه ربما، رفع أحمادو قائمتيه الخلفية، فشاهدوا انتفاخاً بحجم تفاحة.. حقا كان ضرعاً، وعندما مسّدوه لم تخرج نقطة حليب واحدة، بادله الجميع نظرة متسائلة، فقال وهو يخرج :‏

- كما رأيتم، هو مجرد تيس ابن تيس، ولكن إثر ولادته ظهرت «حدرة» صغيرة في بطنه، درّت «شوية حليب»... وزوجتي خوتة وثرثارة، ولا أعرف كيف انتشر خبره بمثل هذه السرعة، ولا أعرف كيف حيكت الشائعات، والأحاديث، وكيف شفي المرضى، وكيف أصبح هذا التيس بهذا الحجم، وما يحز في روحي، كيف وصلت سيرته إلى الدول الأخرى؟!‏

قال أحدهم:‏

- يحدث أحياناً أن تتسرَّب مواد أو هرمونات، لم أعد أذكر، من الأم إلى الوليد، وهذه الهرمونات مسؤولة عن إدرار الحليب عند الأم، وقد تؤدي إلى انتفاخ ثدي الوليد وسيلان الحليب أيضاً.. حتى لو كان ذكراً.‏

سألوه مستغربين:‏

- هذا يعني أنه لا وجود لصحّة تلك الأخبار عن حمل ابنتك وإنجابها، وشفاء عمك المسن.. و.. و‏

ضحك وقال:‏

- ابنتي التي تزوَّجت منذ سبعة أعوام رزقها الله بصبي، وللصدفة حدث ذلك مع مولد الجدي، والذي هو تيس الآن.. وبخصوص عمي بلغ به المرض حداً أقعده في المنزل، ولم يعد قادراً على الخروج، أو لقاء الآخرين، وقد يفارق الحياة بين الفينة والأخرى، ويمكنكم رؤيته إذا شئتم..‏

- وكيف استثمرتَ تلك الخديعة، وكيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟!‏

- يا بني إن الآخرين هم أرادوا لأنفسهم أن يعيشوا تلك الأوهام.‏

- وكيف تبيع الحليب بهذه الأسعار المرعبة؟‏

- من يستطيع منعك أن تبيعني كوب الشاي هذا بألف ليرة مثلاً، إن كنت أنا راضياً؟ عندما تكون مريضاً تتمنى أن تأكل التراب، لتشفى.‏

ثم ساعدهم أحمادو على ترحيل التيس بسيارة جيب، لنقله إلى العاصمة. وفي صباح اليوم التالي، مدَّ أحمادو رأسه من شباك دكانه، فيما طناجر الحليب ما زالت طافحة خلفه، وقال مخاطباً حشود الناس الذين يطلبون شراء حليب التيس:‏

- يا جماعة أريد أن أقول لكم شيئاً مهماً.. حليب التيس اليوم صار أطيب.. وأشهى.. ومفعوله الطبي أكثر بكثير من الأول.. «لأنو تعشَّى مبارحة عند الحكومة..».‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية