|
الملحق الثقافي كانت تلك الكلمات آخر ما سكبته شفتاه عليها، وقبلة رقيقة وضعها في كفيها الجميلتين.. حين كانا واقفين في محطة القطار، حينما كان القدر قد شارف على الانتهاء من غزل حكاية عمر. كانا واقفين، ويداها الصغيرتان النحيلتان تتمسكان بضراعة بيديه القويتين المتشققتين، كل جرح فيهما يطفح بذكريات حياة. وكانت العيون الفضولية حولهما، تحملق باندهاش، وتنسج أسئلة في المخيلات، عن ياسمينة تفتحت للتو في أرض عجوز متشققة. وكلما مرت الدقائق، تشبثت اليدان الناعمتان والعينان العسليتان بشجرة السنديان القوية، متوسلة البقاء. هكذا كانا، كانت ياسمينة بيضاء رقيقة ضعيفة، وكان قوياً شامخاً صلباً كشجرة سنديان. وبعد دقائق كانت العينان العسليتان تمطران من خلف النافذة، وخيل إليه وهو يرنو بحنان إلى تلك العينين، أنه يغرق في سيول أمطارها. رحلت الياسمينة التي ملأت حياته عبقاً. في المرة الأولى التي رآها فيها، خشي الاقتراب منها. شعر بالخوف عليها من نفسه، لم يصل لروحه أبداً الخوف من أريجها على نفسه. كيف يخاف منها على نفسه؟ وهو الأربعيني المخضرم الذي اخضلت حياته بأعباق كثيرة... خاف عليها.. فاق جمالها كل أمنياته، وفاقت رقتها أنامله البارعة، التي برعت في إرواء كل زهراته السابقات. ولم تفده كل تجاربه وكل قراءاته وثقافته، فقد نسي وهو غارق في بحر عينيها الضعيفتين، قول شاعره المفضل: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به/ وهن أضعف خلق الله أركانا لقد نسي أن يخشى من الضعيف القاتل على قوته وعنفوانه. اعتقدت أن علاقتهما لو قدر لها الاستمرار، ستكون علاقة فريدة وجميلة، فطلبت منه الزواج مراراً، ومراراً رفض. كان يقنع نفسه برفضه الزواج منها، خوفه الشديد عليها من نفسه، ولكنه كان يعلم أنه في حضرتها لا يستطيع سوى أن يكون راهباً متعبداً. كان القطار يسير مبتعداً، وعلى شفتيها تترتل صلوات لمعجزة ما توقف القطار عن الابتعاد دقيقة أخرى. وكان لا يزال واقفاً، لا يقوى على المضي خطوة، وفي أنفه أخذت تنبعث رائحة عشق، لعبير جسد يبتعد، فيوقظ الرجولة النائمة في حضوره. يهب للركض خلف ياسمينته الراحلة، حين أخذت عجلات القطار تحيد عن سكتها، مستجيبة لصلوات إلهة صغيرة تملأ الفضاء بعبق الياسمين. |
|