|
الملحق الثقافي وإذا كانت الترجمة كذلك فهل يقتصر هذا المفهوم على الشعر فحسب حين يُترجم من اللغة الأم إلى لغة المترجم؟ أم أن القصة والرواية وغيرهما من الفنون الأدبية وكذلك الدراسات العلمية والأدبية والنقدية والفلسفية والتاريخية تندرج هي أيضاً تحت هذا البند؟ أم أن الأمر يختلف عمّا هو عليه في الشعر؟
نعم في الشعر! ففي الشعر وحده ـ باعتباره الكلامَ المصفّى الذي تتجلّى فيه الروح الشاعرة ـ ربما يقف القارئ أمام التفكير بخيانة ما قد ارتكبت بحقّ هذا الكائن الذي يحتلّ مرتبة مرموقة في قلوب محبّيه وعشّاقه الذين تهيم فراشات أرواحهم حول مائدة ناره الخالدة، ثم ألا يمكن أن نعدّ الترجمة في وجه من وجوهها خيانةً محبّبة إلى النفس كونها على أقلّ تقدير نقلاً لحالة إنسانيّة بلغت أسمى درجات السمو الروحي حين تكون مرآة لحالة عشق اكتوى بنارها قلبُ صاحب النص الأصلي؟ أوليست الترجمة جسراً يمكن لنا أن نعبُرَ عليه إلى الآخر أو يصل الآخر من بين ظهْرَانَيْه إلينا؟ ثم ألا يمكن عدّ أيّ نص أدبيٍّ لأية حالة إبداعية هو أيضاً نيجاتيف مكرّر لكتابات أخرى سبق أنْ تناولها مبدعون آخرون في زمن ما؟ وأياً كانت التقديرات والتأويلات فما دفعني إلى هذا القول هو مروري في يقظة ما أمام قصيدة «قال لها ذات يوم» للمستشرق النيوزيلندي روس هايدن المنشورة في جريدة الأسبوع الأدبي في عددها «1266» الصادر صباح السبت الثامن من تشرين الأول 2011 قامت بترجمتها عن الإنكليزية سامية دبّاغ. إذاً فنحن أمام حالة عشق ـ مترجمة ـ لا انفكاك منها، أو نحن أمام صورةٍ لطيفِ الحبيبة لا الحبيبة ذاتها بروحها وريحانها، فالكلمات في هذه القصيدة برسمها تصبح حماماتٍ تضمّ صغارها.. إنه الحبّ الذي يذيب الحديد ويتغلغل في كيان الإنسان ليتجذّر كالتوت البريّ في حين تسافر العينان بعيداً في براري الوحدة والوحشة، أما المساء فيحلّ صاخباً وهو يفقد سكينته المعهودة في متاهات الظلام وكأن السكينة ضوء ينير الطريق إلى الهدوء، لتلهث العبارات باحثة عن الحروف والأسماء في محاولة للخروج من حالتَي الضياع والتشتّت للوصول إلى اكتمال تنشده النفس الشاعرة. وتنتقل المترجمة حسب ما ذهب إليه الشاعر في طلبه من الحبيبة أن تكون فصولاً خيّرة لا خريف في شجرة عمرها وتتجاهل الشجرة كلّ ما يمتّ إلى الخريف بصلة لتبقى حياة متدفّقة بالخضرة والأمل والحياة، فالحبيبة إذاً أيقونة معلّقة في دير يثقلها السكون عابقة ببخور التاريخ، بينما يعتكف الشّاعر في محراب العشق ليرى في الحبيبة صمتاً يشبه صمت تماثيل المدن القديمة التي يلفّها ضبابُ الفجر، بينما يتحوّل صوتها المفاجئ إلى عناق عصافير وسنابل. وحين تعجز المعاجم والكلمات عن تأويل ما لا يمكن تأويله يحمّل الشاعر حبيبته كل المعاني التي عجزت اللغة عن بلوغ قطف ثمارها.. لكنّ الروح تهاجر من جديد كغيمة حالمة.. ليصبح الشاعر ممسكاً بأهداب ثيابها الطافحة بالحياة كونها لا تشبه أحداً؛ وهذا ما ينبغي أن يكون إذ لا بدّ للحبيبة أن تكون متفردة بنفسها ولنفسها وتشكّل حالة جديدة لدى الشاعر.. حزناً كان أم فرحاً.. غفوة في مهب الحنين أم صحوة في لقاء لا نهاية له، وكأن صوته يمتزج بصوت بدويّ الجبل في عروجه إلى ألق الحبّ وسموّه: هبينيَ حزناً لم يمرّ بمهجة/ فلستُ براضٍ منكِ حزناً مجرّبا إلا أن تناقضاً واضحاً ينفر من كِنَاس هيكل القصيدة حين تنقل المترجمة قول الشاعر: وفي وسط بحار الشوق أغرق لا أحبّ العوم.. ففي غرقي نجاتي مرة أخرى تؤكّد القصيدة أن الألفاظ لا تلبّي رغبة المعاني بل تخونها، والسبب في ذلك كما يرى الشاعر هو أن الحبيبة أكبر من الوصف بالكلمات أو الرسم بريشتها، فما أشبه حالته بحالة فوانيس الصّيّادين وهم يمضون إلى أكواخهم حفاة يعدّون خطوات المساء على الرمال الرطبة وقد تلبّدت بها أقدامهم، لكنه يتركهم حيث هم ليبقى هو وحيداً يرقب عودة الحبيبة كعليل يائس يرقب عودة شفائه المستحيل، فلا هي تعود ولا هو يشفى من حبّها، هكذا هو الحبّ وكذلك هو الشعر، لكنني لا أدري إلى أي مدى وفّقت الشاعرة سامية دبّاغ في ترجمة هذه القصيدة التي أتمنى أن أقرأ لها ولغيرها ترجماتٍ أخرى متحرّرةً من ترجماتٍ حرفيةٍ ووضع معاني القصيدة في قالبٍ شعريٍّ جديد ولبسها لبوسَ تفعيلةٍ شعريةٍ تربط أركان القصيدة بوشائجَ فنيّةٍ فيها من السحر والجمال ما يكسبانها غنائية أسمى وبوحاً أعذبَ من نثرٍ يبعِدها عن فضاء ولادتها الحقيقية. |
|