تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الحساب الاستراتيجي في سورية وتداعيات المرحلة

شؤون سياسية
الأربعاء 16-5-2012
بقلم الدكتور فايز عز الدين

مع أن دمشق لم تنقطع دمعتها بعد على شهدائها الذين راحوا ضحية التفجيرات الإرهابية في القزّاز, وكادت حلب أيضاً أن تقع في مصاب جديد, والمدن السورية الأخرى مصائبها بهذا الحجم أو ذاك من التفجير أو القتل أو اغتيال الكفاءات الوطنية رغم وجود بعثة عنان وعملها.

لكن وعبر تناثر الأشلاء, وسيل الدم الوطني الغالي على أرض الوطن تبرز حقائق جديدة تدخل في الحساب الاستراتيجي لما يحدث في سورية, وما يحدث خارجها ويستهدفها, وما يحدث على صعيد عالمي؛ لا يمكن إلا أن يقع تحت النظر التحليلي, والبحث العلمي السياسي فيما يعني الراجع السياسي عموماً على صعيد المواطن والوطن والإقليم, والعالم بآلية متزامنة, ومتواكبة, فالحدث السوري لم يبقَ محللٌ فيلسوف واحد في الغرب المتصهين, أو الشرق الرافض لسياسات التدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى إلا وصار يأخذ الخصوصية السورية بعين الاعتبار السياسي الإستراتيجي, والفلسفي الاستشرافي .‏

والخصوصيّة السورية كانت تقدِّم نفسها دوماً على مشهد العروبة السّياسية في مؤسسات العمل العربي المشترك وفي المقدمة الجامعة (اللّاعربية اليوم ) ومؤتمر القمة, وتؤكّد دوماً على مفاهيم العرب والأمة والواحدة, والنهضة والمشروع القومي الواحد, والتحرر والمجتمع العربي الموحد, والعدل والدمقرطة الكاملة للحياة العربية, والمقاومة واستبقاء الصراع العربي ضد الصهيونية وكيانها العنصري في رأس الأولويات العربية, والانخراط دوماً مع أي قطر عربي في كفاحه ضد مظاهر الاستعمار التي يكافحها لكي تبقى فكرة الوجود العربي الواحد والمصير العربي المشترك, والمستقبل العربي للجميع واضحة المعالم والآثار في المحرك العقلي, والوطني العربي، والقومي كذلك حتى يتمكن الوطن العربي بأهله وقواه الحية من أن يواجه العصر باستهدافاته، وتحدياته، واستحقاقاته, والتقدم معاً كتلة عربية واحدة في عالم يتكتل ويتوحد ما فوق القوميات المختلفة, ونحن على الأقل قومية واحدة.نعم هذا هو الإطار النظري, والمبدئي للعقل السياسي في سورية، وقد خلق هذا العقل الصيغة السورية في العيش المشترك, والتسامح, والاحترام المتبادل بين أطياف المجتمع السياسية, والروحية, والاجتماعية.‏

ما كنا فيه نتلمس بالحواس الخمس قيمة المواطن الأخ في كل محافظة نعمل فيها, وقيمة مجتمعنا المؤتلف المتعاضد والمتآزر، وقيمة أهلنا الذين قد نختلف معهم في التفسير, والرأي, لكننا معاً أخوة في وطن واحد.وكم كنّا نشعر أثناء الفعاليات الوطنية في مناسبات الوطن أن مقولة: الكل في وطن واحد تُحَرّكُنَا وتنعش الضمير الوطني, والقومي فينا لكي نتمتع بالحس المشترك والمسؤولية الواحدة في بناء وطن الجميع والانتفاع بخيراته, والدفاع عنه, وتحرير ما احتُلَّ من أرضه.هكذا كانت تربِّينا الصيغة السورية, وعليها وصلت سورية إلى دولة العروبة المقاومة, وقلعة الصمود العربي للأحرار العرب الذين كانوا يأتون من كل الأقطار ويدخلون بالهوية إلى بلدهم سورية يُعدُّون أنفسهم أو يُعدُّون للمقاومة في العراق ولبنان, وفلسطين, وكم احتضنت بلدنا القادمين إليها من الأشقاء بأخلاقية الوطن العربي الواحد, والأخوة العربية الواحدة, ولم يشعر عربي واحد بأنه يُطلق عليه لفظة أجنبي في سورية ومازلنا في زمنٍ فيه الكثيرون من العرب لا يستقبلون العربي إلّا بالتأشيرة وجواز السفر, والكفيل, واسمه في داخل البلدان أجنبي.‏

إذا كانت سورية على صورتها هذه قد قَضَتْ عمرها العربي في خندق العروبة المقاومة, فكيف تمتدُّ إليها يد التفجير للبشر والشجر والحجر ؟!! ما معنى أن نقتل المواطن ( طفلاُ ورجلاً وامرأة وشيخاً) على سريره وتحت سقف بيته؟! هل التفجير السياسي لقوى الوطن الحيّة لكي تعمل معاً, وتحرر هذا الوطن معاً, وتبني نظامه الدستوري والشعبي معاً وتجدده عند كل مقتضى هو المطلوب, أم المطلوب تفجير الوطن وقتل آمنيه, وتهجير أهله، وتحضيره لقمةً سائغةً للمجهول, وأعداء الوطن ؟! ثم من قدَّم للسوريين قَتْلَ الناس في كل مكان من بلدهم على أنه طريق للحرية ؟! من الثابت إستراتيجياً عند مَنْ يعقلون بأن لغة القتل, والترويع, والتهجير, والتدمير لم تثنِ الشعب – على كل فظاعتها – عن أي خيار وطني, ولم تجعل السوريين – ولو بأي نسبة في التفكير – يقاربون الحرب الأهلية, ثم لم ترهبهم فهم مؤمنون, ومَنْ أتت ساعته سيلقى وجه الله حميداً.‏

والحساب الاستراتيجي الآخر هو الإقليم الذي يعي أن تدمير سورية دولة وجغرافية سيلحقه تدمير آخر في كل اتجاه, وهذا التدمير لن يصبَّ سوى بمصلحة إسرائيل؛ إلا إذا كان المقصود في نهاية المطاف هو خدمة العدو الصهيوني. وحين يسلّم الدكتور الجعفري المندوب السوري لدى الأمم المتحدة أسماء /26/ إرهابياً موقوفين في سورية من تونس, وليبيا, ومصر, والأردن, ولبنان, وفلسطين وهم جميعاً من تنظيم القاعدة هل سوف يبقى العقل السياسي العربي مخطوفاً أم إن العروبة والضمير القومي لا بد لهما من صحوة استراتيجية تقول: كفى, ولماذا لا يُكتب للعرب أن يكونوا أسياداً على أنفسهم, وأوطانهم ؟! إن التفجير والتدمير والقتل والتغرير سياسة قد تضرُّ كثيراً, لكنها لا يمكن أن تهزم شعباً قرر أن ينتصر.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية