|
علوم ومجتمع لن اغريكم بالقراءة ولكنني اطالبكم بالبحث في خصوصية الشخصيات الواردة فيها, لمعرفة أين اصابت وأين اخطأت?! أنهما يافعان لم يخرجا بعد عن (طوق) الثامنة عشرة.. لكنهما جابا عالم بلاد العجائب وعاشا خوف (ايليس) وتمكنا من النجاة.. لكن.. لماذا نجيا.. وكيف? فتيان توءمان من سورية.. قدر لهما أن يفوزا بمنحة دراسية للولايات المتحدة الأميركية.. فانقلبت لمحنة لأحدهما.. فوقف الآخر إلى جانبه بحكم أنهما مرتبطان بحبل سري واحد يستمدان منه القوة على مقاومة اغراء الغوص في بحر (الحرية الكاملة) واغراء السوبرمان الأميركي.. القوي والثري والخارق.. الأذكى والأحلى.. لماذا رفضا البقاء في مدن تقدم لمواطنيها كل الخدمات..? وقررا أن لاعودة إليها?! هل لهذا علاقة (بالحبل السري) الذي تدفق منذ الطفولة بالحنان والأمان والسخاء حباً من عائلتهما? فاستوعب أغيد وأمجد كندر ألا شيء يعوض عن هذا الرحم (العائلة والأصدقاء والمدينة الأصل دمشق..) فعادا?! هل الامتلاء الثقافي والحضاري في داخلهما لم يجعل منها مهاجرين إضافيين في صنوف الزاحفين والباحثين عن (جواز سفر) إلى أي مكان.. وكيف ما كان?! هل اتقن اهلهما ومعلمتهما (الآنسة هالة) زرع الانتماء في داخلهما فأنبت زرعاً أصله ثابت وفرعه في السماء?! أغيد وأمجد (17 عاماً) عاشا تسعة أشهر.. في بطن الحوت وكان المخاض صعباً وشاقاً على طفلين في عمرهما.. في بلاد العم سام. ولكن..عادا بسلام بعد أن نضجا كثيراً.. أو هكذا خيل إلي.. فربما يعتبرهما البعض.. لا يستحقان النعم التي هبطت عليهما.. القضية من أولها أن أمجد وأغيد.. نالا منحة دراسية من معهد أميديست ¯ مركز تعليم وتدريب في الشرق الأوسط تابع لوزارة الخارجية الأميركية¯ . وتم انتقاؤهما مع 13 طالباً وطالبة بترشيح من المعهد المذكور وبالتعاون مع وزارة التربية في سورية. في واشنطن .. وفي كانساس!! سأترك لهما شرح ما حصل معهما كل على حدة.. لنخلص(ربما) بعبرة أو أكثر.. أغيد قال: الاختيار تم على أساس اتقان اللغة محادثة وكتابة وقوة الشخصية والقدرة على احتمال البعد عن الأهل..(يتابع) بعد سرده لوقائع الوداع..إلى لحظة هبوط الطائرة في مطار (واشنطن).. هناك استقبلنا مندوبو المنظمة وكان عدد الطلاب 250 طالباً وطالبة من دول عربية واسلامية.. وكان التمثيل السوري 13 فقط في حين حظيت لبنان مثلاً بتمثيل 24 طالباً وطالبة من طلابها.. وقد أثار هذا التفاوت مباشرة في داخلنا استغراباً.. حول نسبة عدد الطلاب قياساً لعدد السكان والمرشحين الذين لم يختر منهم إلا عدد قليل من سورية?! كان من الواضح التمايز في الاختيار والانتقاء مع أن الطلاب السوريين لم يكونوا أقل كفاءة.. المهم توزيع ال¯ 250 وطالباً طالبة على 52 ولاية وكان نصيبي البقاء في واشنطن وسافر أخي إلى ولاية كانساس.. أين كنتم تقيمون? يتابع أغيد في دمشق عرفنا أن سكننا سيكون عند عائلات تتبرع لاستضافتنا خلال فترة التدريب.. ويشترط أن تكون هذه العائلة من الطبقة المتوسطة ثقافياً واجتماعياً.. وفي الأرياف.. الأمر متروك للحظ يقول أغيد: أولاً كان الهدف من الزيارة هو التبادل الثقافي والعلمي بين سورية والولايات المتحدة الأميركية وهذا لم يحدث.. بمعنى أننا لم نسمع بطلاب من هناك أتوا للدراسة لدينا!.. المهم أن نصيبي جاء عند عائلة من الزنوج مؤلفة من أم و8 أولاد بداية كان الوضع مريحاً ثم بدأت الحياة عندهم تتراجع كثيراً.. وغيرت سيدة المنزل من معاملتها معي وراحت تكلفني بأعباء منزلية مرهقة يومياً علماً أن العقد ينص على العمل المنزلي هو يوم واحد في الأسبوع, وبدأت هذه السيدة تمنعني من التحدث مع عائلتي وحين يتصلون بي كانت تحول الهاتف إلى الفاكس.. ومن الطبيعي بوجود عدد كبير من الأولاد (وهم من النوع الأكول) ألا احصل على وجبتي الغذائية.. ولا اخرج من المنزل للتنزه أو الترفيه كما ينص العقد وراحت حالتي النفسية والجسدية تتراجع كثيراً حيث كنت اضطر لتوفير بعض النقود ولاطمئن الأهل عني الذين عاشوا فترة عصيبة جداً.. ثم أصبحت هذه السيدة تحصل على النقود التي يرسلها أهلي لي وتطالبهم بدفع مبالغ أكثر وهدايا..! وبسبب الضغط النفسي الشديد قررت ترك المنزل واشتغلت عند شخص باكستاني وتعلمت كيفية عمل البيتزا وكان شخصاً جيداً واستطعت توفير مبلغ 100 ألف دولار.. أما في المدرسة التي تعلمت بها فقد تعرفت على أستاذ أميركي تفهم معاناتي وقدم لي المساعدة واسكنني في منزله وكان رحيماً وإنساناً رائعاً.. ألم تطلب من المنظمة المسؤولة عنك إيجاد عائلة بديلة..? طبعاً ولكنهم رفضوا بشدة واتهموني بمخالفة القواعد والخروج عن الاتفاق بحجة أن الفترة لا تستحق عناء الانتقال والبحث عن عائلة.. رغم معرفتهم الحقيقة بكل ما حصل معي.. وأكدت لهم أن تلك السيدة غير أهل لأن يعيش في بيتها طالب.. فهي متزوجة من أربعة رجال وزوجها الأخير في السجن, ومع ذلك عرقلت المنظمة لقائي مع أهلي الذين أتوا إلى واشنطن لبحث الأمور السيئة التي اعيشها, وعاقبتني برفض منحي تذكرة العودة. حاججتهم بقوانينهم يتابع أمجد.. (الذي تعلم كثيراً وعرف طبيعة القوانين هناك) أحضرت محامياً يمثلني واتصل هذا المحامي بالمنظمة وهددهم بفضح الاخطاء التي اوقعوا شقيقي أغيد بها.. بعدها تراجعوا لمعرفتهم أن الدعوة خاسرة بالنسبة لهم.. وتمت التسوية واعطونا تذكرة العودة.. ومن هذه التجربة تيقنا أنه لم تتم دراسة متأنية للعائلات التي اختاروها لنعيش معها.. وكنت دائماً على اتصال مع أغيد وقابلته ورأيت التردي الصحي الكبير الذي وصل إليه وخفت عليه كثيراً.. وكان من لطف الله أن يلتقي شقيقي بشخص أميركي جيد وطيب ويساعده على تجاوز المحنة وكانت مشكلتنا الحقيقة هي قلة التواصل مع المنظمة فلا أحد يسأل عنك وعليك أن تدبر أمورك بنفسك?! الصعوبات كانت أقل بكثير.. وتجربتك هناك.. حدثنا عنها? يضيف أمجد: كان وضعي جيداً بالصدفة فالعائلة التي عشت عندها كانت تتألف من أب سوري من ادلب وأم أميركية ولديهم فكرة كاملة عن المجتمع السوري ولم اشعر بالغربة بينهم وقد عاملوني معاملة الابن, وتم تبادل الزيارات بين اسرتي وهذه العائلة فقد اتوا إلى سورية.. وكانوا سعداء جداً.. المحطات الفضائية العربية .. باهظة الثمن..!! كيف ينظر المجتمع الأميركي وخاصة الشباب.. للعرب? أغيد: هناك تفاوت في الوعي فمنهم من يعرف عنا كعرب الشيء الكثير ومنهم من يعتقد أننا لا نزال نعيش حياة بدائية.. ويسألوننا هل تركبون الجمال.. وهل لهذه الجمال مواقف عندكم (أي محطات انتظار كالحافلات والسيارات مثلاً). فالشعب الأميركي لا يعرف عن العالم إلا الأمور التي تبثها محطاتهم التلفزيونية.. حتى العرب لا يعلمون الكثير عن اوطانهم فالمحطات العربية باهظة الثمن ولا يقتنيها إلا الأثرياء منهم.. وهم لا يهتمون كثيراً بالسياسة بل ينصب اهتمامهم على أخبار (الفضائح والجرائم) ومعظهم لا يعرف شيئاً عن فلسطين أو العراق.. لكن مؤخراً بدؤوا يهتمون بأخبار المنطقة العربية وبوجود الجنود الأميركان في بغداد. بوش.. شجعنا للعودة لأميركا المجتمع الأميركي مفتوح جداً.. كيف حققتم التوازن بين ثقافتهم وثقافتنا? أمجد.. أنت حرة تختارين ما يناسب ثقافتك ومعتقداتك فكل ما تريدينه موجود.. ولك القرار حسب طموحك وكيفية الحياة التي ستعيشينها.. هناك الحرية الكاملة.. وهناك أيضاً المتعلم والمبدع والعالم والعامل والشواذ والمجرمون والعاطلون عن العمل والمتسكعون.. ولك مطلق الحرية بالحياة بالشكل الذي تريدين.. أما أخي وأنا فلم تغيرنا كل مشاهد الحرية هناك كما لم تغير مبادئنا وافكارنا ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل الطلاب الذين درسوا معنا كذلك وعندما التقينا ببعضهم واثناء عودتنا إلى اوطاننا لاحظنا أن 90% منهم غيروا تصرفاتهم ولباسهم وتأثروا كثيراً بالمجتمع الأميركي.. أي (تأمركوا). وأضاف أغيد: من ضمن البرنامج تقرر لنا اللقاء مع المحافظين من كانساس وهم كما تعلمين أصحاب وصناع القرار في أميركا.. وعندما حضرنا لم يستقبلنا المحافظ وناب عنه ممثل المحافظ ولم يكن الحديث معه مثمراً ولم ارتح لطريقة تعامله معنا.. ففيها الكثير من التعالي.. وهذا ما دفعني للتساؤل: لماذا يغير هؤلاء الطلاب من طبيعتهم ومن أجل ماذا.. لماذا يشعرون بالنقص ويبدؤون بتقليد الشباب الأميركي وينسلخون عن بيئتهم.. لماذا هذه الهشاشة الارثية والثقافية والسلوكية?!.. لقد حزنت لأنهم لا يعرفون قيمة انفسهم وقيمة حضارتهم بالشكل الأمثل وكثير منهم لا يدري أهميته الفكرية والعلمية ويحاولون الخروج من ذاتهم للوقوع في احضان ثقافة غربية ليست أفضل كثيراً إلا من خلال المهاجرين الأوروبيين والآسيويين والمسلمين والعرب. وهم يستقطبوننا لدعم هذه الحضارة, ففي لقاء معنا التقينا مع الرئيس بوش.. بالبيت الأبيض في حديقة الزهور وألقى علينا خطاباً قال فيه: أنتم شباب مهمون ونحن فخورون بكم وندعوكم السنة القادمة للحضور إلى جامعاتنا ونحن سنقدم لكم كل الدعم من أجل ذلك.. وعندما سألنا إن كنا نريد العودة إلى أميركا.. رفعت الغالبية العظمى يدها بالموافقة.. ولكنني رفضت ذلك ولم ارفع يدي.. وهو يدرك اهميتنا فلماذا لا ندركها نحن?! في لقاء مع كولن باول.. أقامت وزارة الخارجية أيضاً حفل افطار لنا (في شهر رمضان) ودعت المنظمة ثلاثة من الطلاب العرب من المغرب واليمن وسورية وكنت من بينهم وكانت كوندوليزا رايس حاضرة.. وتصادف أنني جلست على طاولة وزير الخارجية يومها السيد كولن باول وسألني عن اغرب شيء وجدته في أميركا.. أجبته: البرامج التفلزيونية (الإباحية) التي تعرض على تلفزيوناتكم.. ضحك كثيراً وقال: يمكنك أن لاتراها وسألته عن علاقة أميركا مع سورية.. بما يتعلق بالسياسة الخارجية للحكومة الأميركية معنا.. وبما يخص الوطن العربي.. قال: إن هناك ضغوطات كثيرة تمارس علي بهذا الشأن وأنا اقدر الاسلام كثيراً والعرب, وقال إنه سيستقيل قريباً نتيجة هذه السياسات!! هذا كان موقفه وبعد فترة استقال فعلاً.. فهل يتعلم شبابنا الدفاع عن موقفه واتخاذ القرار بمعزل عن الإغراءات والدعوات? التسهيلات كبيرة .. والمنح مدفوعة?! ما الاغراءات التي قدمت لكم? أغيد.. الحقيقة انهم عاملونا باحترام كبير وعرفوا قيمة تفوقنا لهذا كانوا في كل لقاء مع مسؤول أميركي كبير يقدمون لنا التسهيلات والاجراءات الميسرة لمتابعة دراستنا هناك, وكانت تقدم لنا عروض شخصية وبالاسم فهم يزورون المدرسة ويطلعون على درجة العلامات ويختارون المتفوقين وقدمت لي عروض كثيرة وبالاسم وحاولوا إقناعي بالعودة إلى هناك للدراسة والعمل مع تأمين (فيزا) مجانية وعدونا بتقديم مساعدات مادية ومنح مجانية فقط لنبقى أو نعود.. أهلنا .. ومعلمتنا الآنسة هالة.. ما الذي جعلكم ترفضون كل هذا وتقررون الرجوع إلى الوطن دون نية العودة إلى هناك? أمجد: أولاً أريد التأكيد على أننا لم نندم أبداً للعودة إلى سورية ولا نفكر بالذهاب إلى هناك أو أي بلد آخر.. ربما يستغرب بل استغرب كثيرون هذا القرار.. الحقيقة اننا لم نجد ما يشجع على البقاء.. لأسباب عدة.. منها شعورنا بالأمان الحقيقي في بلدنا, فهناك وبعد السادسة مساء لا تجرؤ على الخروج إلى الشارع. أغيد: ستضحكون إذا قلت إنه لافرق كبيراً بين مجتمعنا ومجتمعهم هم يتداولون الدولار ونحن الليرة.. ليجرب أحدكم السفر خارج وطنه وسيعرف قيمة كل الاشياء الصغيرة والكبيرة التي لم يكن يعرف اهميتها.. أمجد: هناك كنت أسترجع كل نصائح اهلي التي لم استمع لها هنا.. في أميركا عرفت معنى الأهل والأم والأخوات واشتقت لهذا الفيض من الحب والاهتمام والاحتواء الذي لا يعوض فقدانه شيء.. أمجد وأغيد: المعلمة الآنسة هالة كانت مدرستنا في مدرسة التطبيقات المسلكية عندما كنا في الصف السادس وبقيت علاقتها معنا للآن وهي مشهود لها بالتفاني والإخلاص والعطاء من كل قلبها لطلابها.. وتتابعهم حتى بعد تخرجهم من المدرسة.. وحين انتقلنا للصف السابع كنا مع زملائنا نذهب للمدرسة لنلتقي بها وبالمديرة (سوسن شرابي) ونبكي ونطلب البقاء في المدرسة.. هذه العلاقة استمرت وتواصلت ونضجت عندما كنا في أميركا.. كانت على اتصال دائم معنا ثلاث أو اربع مرات اسبوعياً, وكانت حلقة وصل مع أهلنا حين يتعذر الاتصال.. وربطنا بالوطن..أذان المغرب..ومدفع العيد.. كيف?! نقلت لنا دائماً أخبار الشام.. أول بأول.. أحياناً ساعة بساعة.. حركت فينا دائماً الحنين, وحرضت ذكرياتنا.. كانت تقول.. الآن أذان المغرب وحانت ساعة الإفطار.. ضرب مدفع العيد.. الشام رائعة في هذه الساعة من الليل.. هدوء ونسيم عليل.. الناس خرجوا في ساعات متأخرة للنزهة.. الشوارع ممتلئة بهم يضحكون.. ألم تشتاقوا لأكلة(فول),هل تتذكرون التسكع في طريق الصالحية-باب توما- القصاع-المزرعة..الخ. أنا أتناول الآن أكلة كبة..ألم تشتاقوا لها.. هذه التفاصيل الصغيرة كانت تشدنا وتأسرنا وتخلق فينا حنيناً خاصاً.. كنا نقول لها كل مالا يمكن أن نقوله لأهلنا..تستمع لنا وتخاطبنا وتحل لنا مشكلاتنا.. تحثنا على البقاء ريثما ننتهي من الدراسة..وتدفعنا للعودة دون أن تطلب ذلك...هي أم بكل معنى الكلمة.. لماذا? حقاً لماذا عادا.. ولماذا لم يفعل كثيرون مثلهما? لماذا يقرر أغلب شبابنا(السفر بدون عودة) ..ولماذا عاد أغيد وأمجد بدون نية الرجوع!! لو تيسر لمن قرر الهجرة(خاصة أصحاب الأدمغة) عائلات تقف إلى جانبهم..وتؤسس فيهم أن لا شيء يعوض الإنسان عن كرامته..ولا يبيعها ولا يتاجر بها.. هل كانوا ليسافروا..ويقطعوا حبال الود..?! متى نتيح لأطفالنا وشبابنا وشاباتنا..فرص حياة لانضطرهم فيها للاختيار بين أمرين أحلاهما مر وحنظل..البقاء أو الرحيل? |
|