تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الأخلاقيات الطبية .. على حافة هاوية أم في خبر كان?!... د. عبد الحي عباس: قانون العقوبات فيه إجحاف بحق المريض والمراقبة والمحاسبة منوطتان بنقابة الأطباء

علوم ومجتمع
الاحد 17/7/2005م
موسى الشماس

عندما فكرنا في قسم المجتمع, بعقد ندوة تحت عنوان الأخلاقيات الطبية نرد فيها شيئا ً من الاعتبار لصاحبة المشكلة المنشورة جانبا ً ,

أدركنا حقيقة صعوبة الخوض في هكذا موضوع, نظرا لحساسيته بالنسبة لكثير من الأطباء الذين رأوا أنه لاينبغي التحدث إعلاميا فيه لأنه قد يحمل اتهاما وإساءة مبطنة للطب والأطباء‏‏‏

حتى ان أحدهم قال لنا بمنتهى الشفافية والوضوح: إثارتكم لهذا الموضوع الآن, سيضعف ثقة المواطن بالطبيب وربما ساهمتم -كإعلام- في زعزعة هذه الثقة, ونحن أحوج الآن إلى التعزيز لا الزعزعة..‏‏‏

ومع احترامنا وتقديرنا لجميع الأطباء, وغيرتنا على سمعتهم التي نعتبرها جزءا لايتجزأ من سمعة الوطن والمجتمع الذي لايكاد يخلو فيه بيت أو أسرة من طبيب..‏‏‏

نقول: لابد من إثارة هذا الموضوع, لتسليط الضوء على أخطاء تراكمت عبر عقود من الزمان, وإلا سنبقى نراوح في نفس المكان..‏‏‏

مع وعد قاطع للسادة الأطباء, بأننا لن نوجه اتهاما شخصيا لأحد منهم أو نصرح عن اسم من قائمة الأسماء التي لاداعي لذكرها ونحن نسعى لتصويب هذه الأخطاء..‏‏‏

لأننا بكل صدق نسعى معهم كإعلاميين لإعادة بناء جسور الثقة بينهم وبين المواطن.. انطلاقا من قسم ابقراط الذي رأى احدهم انه بات بحاجة الى تعديل ضمن متغيرات اخلاقيات القرن الواحد والعشرين‏‏‏

لماذا تدهورت أخلاقياتنا الطبية.. ومن المسؤول عن هذا التدهور..‏‏‏

وكيف نرتقي بها اليوم لتعود إلى المستوى الذي كانت عليه بالأمس?!..‏‏‏

هذا ما سنحاول الإجابة عليه من خلال نخبة من أطبائنا الذين نفتخر ونعتز بهم وعلى رأسهم الدكتور عبد الحي عباس الأستاذ والمربي الفاضل الكبير الذي أمضى عقدين من الزمن في مشافي الغرب وعاد إلى أرض الوطن ليلمس بنفسه تأرجح هذا المفهوم بين موازين الغرب والشرق ويلمس لمس اليد البون الشاسع ما بين اخلاقيات المهنة في الستينيات وما اصبحت عليه الآن.‏‏‏

‏‏

يقول: غادرت سورية لعقدين من الزمن بعد أن عملت فيها بالغرب اختصاصيا في الأذن والأنف والحنجرة وأول نقيب للأطباء فيها لأعود بعد تلك السنين التي عملت فيها بالغرب بروفيسوراً وأجد طبا مختلفا عن الذي عهدته حين اختصاصي في الستينيات, هذا ما بدأ به حديثه البروفيسور عبد الحي عباس أول طبيب يقوم بإجراء عملية زرع للركابة ليس في سورية فقط بل في الشرق الأوسط واشتهر فيها حتى في الغرب وقد أشادت بإنجازاته العلمية الصحافة الغربية بشكل مميز.‏‏‏

هل أصبح الطب صناعة?‏‏‏

بالضبط وعلاقة الطبيب بالمريض أصبحت إلى حد كبير كعلاقة المنتج بالمستهلك.‏‏‏

كيف وجدت الطب في الغرب خلال هذين العقدين من الزمن?‏‏‏

بنيت العلاقة القانونية بينهما على الأساس السابق (منتج ومستهلك) مع ميل واضح لجهة المريض مما قيد الطبيب وجعله يعمل في حالة دفاع عن النفس وخوف من المريض فكل مريض قد يصبح خصما في المحكمة لمجرد أن الطبيب أخطأ معه خطأ صغيرا.‏‏‏

وفي سورية بعدما عدت?‏‏‏

عدت إلى دمشق منذ سنة ونصف لأجد النقيض تماما, الأطباء يعملون بحرية هي أقرب إلى التحرر من كل القيود والالتزامات الأخلاقية والمهنية في آن معا وإذا ما كان لديهم أخطاء علمية فهي تندرج تحت الغطاء الشرعي الفضفاض (قضاء وقدر).‏‏‏

هل عايشت في الغرب التزامات معينة تساعد الطبيب على تطوير نفسه باستمرار?‏‏‏

هذا هو بيت القصيد, فالطبيب في أميركا يعطى شهادة مزاولة المهنة بعد تخرجه لمدة سنتين فقط وبعد انقضاء تلك المدة يجب على الطبيب أن يتقدم بشهادات وثبوتيات تؤكد حضوره لمؤتمرات وندوات ومحاضرات ودراسات علمية متنوعة لاتقل عن 100 ساعة كاملة وإلا لن يعطى شهادة مزاولة مهنة أخرى.‏‏‏

وفي سورية?‏‏‏

ليس هناك ما يلزم الطبيب على الإطلاق لمتابعة المستجدات وتطوير نفسه فتجده يحصل على شهادة مزاولة مهنة (إلى الأبد) وتبقى سارية المفعول حتى يموت ولذلك نجد الطبيب السوري بصفةعامة يبدأ بعد تخرجه بعدة سنوات يفقد رويدا رويدا تلك الكمية التي اكتسبها من خبرات ومعارف منذ بداية دراسته وحتى التخرج في الوقت الذي يكون فيه العلم في تقدم وتطور مستمرين,وفي كل يوم نسمع باكتشاف جديد بينما طبيبنا يعيش على أطلال الماضي وهذا ليس ذنبه فالقوانين هي التي شجعته على الإهمال بتركها إياه دون متابعة فهي المخطئة.‏‏‏

وإن التقصير الواضح الذي لمسته بنفسي والمخالفة لآداب المهنة أصبحا عرفا سائدا وقد قال لي أحد المسؤولين في الشأن الطبي وهو طبيب يتبوأ مركزا هاما قال : (لانريد أن نفتح على أنفسنا عش الدبابير) يقصد لايريد تشجيع المواطن للشكوى على كل طبيب يضر المريض أو يسبب له مشكلات وأذى من شتى الأنواع.‏‏‏

ألن تنال سوء السمعة الجميع في نهاية المطاف?‏‏‏

هذا مما لاشك فيه وهذا بالذات ما دفعني للكلام عن الخلل الواضح الذي يعيشه الطب في سورية, فإنصافا للطب وللمريض وغيرة مني على مهنة الطب في سورية.‏‏‏

وحتى تبقى البقية الباقية من الثقة بين المريض والطبيب خاصة أولئك الأطباء المنصفين الذين لديهم رغبة برؤية الطب في أفضل حالاته.‏‏‏

ما أبرز الأمور العملية التي لمستها منذ عودتك إلى أرض الوطن ودفعتك لتقول ما تقوله?‏‏‏

أتى مريضان إلى عيادتي وقد وجد الأطباء الاختصاصيون الذين عالجوهما ضرورة ترقيع غشاء الطبل جراحيا وهي (عملية مكلفة ماديا) وقدعللوا تشخيصهم لحالة هذين المريضين أنه يوجد خرق في غشاء الطبل وبعد أن قمت بالفحص السريري لحالة هذين المريضين وجدت أن الخرق ليس في غشاء الطبل بل في الأخلاق الطبية لأولئك الأطباء (3أطباء) الذين أشاروا على المريض بذلك لقد كان غشاء الطبل سليما تماما.‏‏‏

(ذكر عدة أطباء مشكلة أخرى تحدث في السياق نفسه عند أطباء الهضمية حيث إن المريض لدى دخوله عندالاختصاصي يشير عليه بإجراء تنظير معدة رغم أن ذلك الاختصاصي يكون مقتنعا بأن النتيجة ستكون سليمة, لماذا لأن كل تنظير سيقبض بعده الطبيب مبلغا يعادل عشرة أضعاف أجرته).‏‏‏

-نعم يحدث هذا وقد جاءني بائع سماعات طبية (وكيل إحدى الشركات) وبيده مغلف فيه مبلغ من المال وقال لي تفضل يا دكتور هذا المبلغ تقدمة من مدير الشركة, وسألته: لقاء ماذا يا بني? فأجاب: حتى تبعث لنا الزبائن من المرضى الذين يحتاجون لسماعات بصورة دائمة وسألته باستغراب: ومن قال لك: إنني أريد هذا المبلغ?‏‏‏

فردالمندوب مرتبكا اعتذر يادكتور فهذه هي العادة أي طبيب يرسل لنا مرضى إذا لم نعطه عمولة عن كل مريض فإنه لن يرسل لنا أحدا بعد ذلك, ويستدرك د.عبد الحي قائلا: ناحية ثالثة لمستها لمس اليد وهي منتشرة بكثرة في الأوساط الطبية, يأتي مريض إلى طبيب ويكون المريض جاهلا بقضية أن ذلك الطبيب ليس هو صاحب الاختصاص المناسب لمشكلته والأخير يعرف ذلك لكنه يسكت ويقبل المريض ويحدد له موعد العمل الجراحي ثم يتصل مع الطبيب الاختصاصي ويقايضه على أجرة العملية والموعد الذي ستجرى فيه العملية ثم يتابع الطبيب (ذو الاختصاص الخطأ) التمثيلية فيدخل إلى غرفة العمليات برفقة الجراح الحقيقي ويجلس على أحد الكراسي يتفرج على الجراح وهو يجري العملية حتى لايحس (أهل المريض) بأنه لم يشارك بالعملية وعندما ينهي الجراح الحقيقي العملية يخرج هذا الطبيب المتفرج من غرفة العمليات أولا وليقول للأهل (الحمد لله على السلامة لقد أجريت له عملية ناجحة) حيث ينسب كل شيء لنفسه مستغلا أن المريض المخدر لايعلم من أجرى له العملية حقيقة ومن مثل عليه دور الجراح..‏‏‏

عندما يطرح موضوع مسؤولية الطبيب يشعر البعض وكأنه لايجب التحدث عنه?‏‏‏

إنه موضوع قديم منذ فجر التاريخ فقد وضع قسم أبقراط الأسس العلمية والسلوكية للمهنة وابتدأها بالقول إن على الطبيب ألا يسبب الأذى للمريض بجهل أو بقصد.‏‏‏

باعتبارك كنت أول نقيب لأطباء سورية ألم يوضع نظام لممارسة المهنة?‏‏‏

هناك تنظيم لممارسة المهنة بقرار مجلس الوزراء رقم /12/ تاريخ 5/1/1970 وفيه تعريف للطبيب وللاختصاصي لواجبات المهنة والممنوعات التي لا تسمح للطبيب وهناك قانون التنظيم النقابي للأطباء البشريين رقم /31/ تاريخ 16/8/1981 وفيه كيف تشكل مجالس التأديب وتشمل (قاضيا) حيث تحاكم الأطباء عند إخلالهم بواجباتهم المهنية أو المسلكية.‏‏‏

ومراقبة ومحاسبة الأطباء بسورية مناطة بنقابة الأطباء فروعا وإدارة مركزية فماذا فعلت هذه النقابة حتى الآن..?!‏‏‏

أضف إلى ذلك أن في قانون العقوبات السوري رقم 185 إجحافا واضحا بحق المريض حيث لاتصح مساءلة الطبيب إلا إذا خرج عن القواعد العامة للطب والخطأ الذي يرتكبه الطبيب في تشخيص حالة مريض لايجعله مسؤولا عن نتيجة خطئه ولو أدى ذلك للوفاة !!‏‏‏

وفي الممارسة اليومية على أرض الواقع ماذا نجد?‏‏‏

إن تصرفات الطبيب وسلوكه الأخلاقي يوضحان أن لديه حصانة موروثة اكتسبها برخصة ممارسة المهنة حصل عليها عند انتهاء دراسته وهي تستمر مدى الحياة دون أن يطالب قانونيا بأية متابعة علمية لما يحدث من مستجدات ضمن اختصاصه قد تكون أهم مما تعلمه حتى الآن..‏‏‏

ثم إن ذلك الطبيب الذي نال شهادة الاختصاص بعد انقضاء ثلاث أو أربع سنوات في حقيقة الأمر هو قد يكون قضاها في مشفى لايملك أية مقومات حقيقية ليكون مكانا للاختصاص إذ ليس المهم على ما يبدو أن يكون المشفى مجهزا بما يفيد تخصص الطبيب وربما كان الأهم أن يؤوي هذا الطبيب ليمرك فترة زمنية معينة لايهم ماذا أخذ فيها وماذا تعلم (أتاني طبيب أذن أنف حنجرة قال لي بالحرف الواحد تم إرسالي للتخصص في مشفى بالحسكة وأصدقك القول: إنني لم أشاهد خلال تواجدي لأربع سنوات هناك سوى عملية لوزات واحدة تم إجراؤها أمامي فكيف سأتعلم الاختصاص على أصوله).‏‏‏

وماذا عن الناحية السلوكية?‏‏‏

الأمر أكثر مرارة, المريض في كثير من الحالات يعامل معاملة لا أخلاقية مطلقا ولاتليق بكرامة الإنسان وأدعو أي مسؤول للقيام بجولة واحدة فجائية إلى مراكز الدولة المكتظة ومشافيها ليلمس ذلك لمس اليد.‏‏‏

والغريب أنه حتى في العيادات الخاصة توجد ممارسات لاتمت للسلوك الإنساني بأية صلة ولا لأخلاقيات المهنة حيث إن الاختصاصي يستغل حاجة المريض له كون (سمعته طنانة) ويبدأ يصرخ في وجه المريض ويقرعه إذا سأله سؤالا لايروق له أو استفسر عن أمر بأسلوب يعتقده ذلك الطبيب ليس من شأنه ولايجوز أن يسأله فيه.‏‏‏

-كنت مرة برفقة إحدى السيدات حيث زارت طبيبا للتجميل فقالت له كم تكلف العملية أجابها:20000 ل.س ردت أليس هذا مبلغا كبيرا أجابها في الحال بعصبية هذا رد وقح وفيه قلة أدب ولا أقبله في عيادتي( أنا لاأبيع فجل) فما كان من تلك السيدة إلا أن أصبحت بحجم حبة الحمص خاصة بوجود زوجها.?!..‏‏‏

الطامة الكبرى في هذا السياق أن الطبيب لايشعر بأنه يخطىء فالخطأ العلمي قضاء وقدر وانتهى عمر المريض أما الخطأ المسلكي فيصبح بخبر كان!!‏‏‏

ماذا ينبغي أن نفعل..?‏‏‏

من الواضح أن الواقع غير مقبول وأن السكوت عنه وتجاهله لن يزيده إلا سوءا سيدفع الثمن المريض والطبيب بآن معا وربما حصل شيء من هذا فثقة المريض بأطبائنا أكثر من مهزوزة‏‏‏

هل ثمة إجراءات مناسبة ومفيدة?‏‏‏

يجب أولا: إعادة النظر في منح شهادة الاختصاص مع تهيئة الشروط الواجب توافرها في المشافي التي تمت دراسة الطالب فيها قبل أن يصبح طبيبا ومراقبة استمرارية وينفذ كل ذلك من قبل لجان اختصاصية ومتابعة الدروس النظرية والعملية التي تقدم أيضا‏‏‏

ثانيا: جعل رخصة الممارسة لمدة محدودة لاتتجاوز 2-3 سنوات كحد أقصى ويشترط لتجديدها حضور الطبيب لعدد معين من ساعات التعليم المستمر والندوات والمؤتمرات والدروس عبر الانترنت وما إلى ذلك بما لايقل عن 100 ساعة خلال تلك المدة وإلا لن تجدد رخصته.‏‏‏

ثالثا: قيام المؤسسات الصحية والعلمية بتنظيم دورات تعليمية لتقييم الأداء تمنح بعدها الحاضرين عددا من الساعات ليتمكنوا من تأمين الساعات المطلوبة لتمديد رخص عملهم..‏‏‏

رابعا: من ناحية التطوير السلوكي أتمنى ادخال مادة آداب الطب وأخلاقياته ضمن منهاج التدريس‏‏‏

وأخيرا ً : إن نقابة الأطباء الموكل إليها مراقبة الأطباء ومحاسبتهم تستطيع القيام بدور أكبر بكثير من كونها متفرجة ولاتريد أن ينزعج منها أحد, ألم يحن الوقت لتقوم النقابة بإشعار الأطباء أن محاسبتها ستكون جدية ولن تتساهل مع الخطأ.?!.‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية