تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تشكيل .. الفنان الرائد نذير نبعة..سـت الحسـن.. أرجـــوان وأزرق وتفـاح ورمـــان

ثقافة
الأحد 17-1-2016
 علي الراعي

يصنف النقاد الفنان نذير نبعة، ضمن الجيل الثاني من رواد الحركة التشكيلية السورية، غير أنه كان شاهد على تجربة عصرٍ كامل لتطور الحركة الفنية،

والمشهد التشكيلي السوري حتى كتابة هذه السطور، وبالنسبة إلى لوحة الفنان نذير نبعة فقد احتفت بكل الاتجاهات الفنية التي شهدها القرن العشرون، من أقصاها إلى أقصاها اختلافاً، وكانت تتناغم على خامة بياض لوحته، مختلف هذه المدارس الفنية، ومن ثمّ كانت أن اكتسبت خصوصيتها، وعلامتها الفارقة التي لا تُشبه غير نذير نبعة.‏

شاهد على عصر من التلوين‏

في البداية كان الهم الاجتماعي، أول ما تجسّد في مشروع تخرجه، أي عمله الأول، وأقصد بذلك «عُمّال مقالع الأحجار» الذي أنجزه سنة 1964، ومن خلال هذا التكوين في لوحة «عُمّال مقالع الأحجار» رصد دراما شقاء الإنسان بكل جمالية، أي أنه ورغم المأساة في الموضوع الذي يتناوله، قدمه بحالة جمالية التي هي هدف وغاية اللوحة، والتي تكمن بهذه المتعة الجمالية.‏

بعد ذلك كان ثمة اتجاهات أخرى في لوحة نذير نبعة مع تطور التجربة، حيث ستتوجه لوحته للاحتفاء بالمرأة كجسد حمّال للجماليات والرموز الكثيرة، وغياب المرأة ربما كان فقط خلال تناوله للقضية الفلسطينية، التي سيخصص لها مجموعة من الأعمال الغرافيكية، وفي مجموعة اللوحات هذه؛ حقق المعادلة بين طرح الموضوع الموجع الذي يتغنى بالعمل الفدائي الفلسطيني ضد قوى العدوان، وبين جمالية اللوحة بما وفره من تمكنه من تأليفه الغرافيكي اللافت حينها.‏

يُمكن دراسة تجربة الفنان نذير نبعة من خلال مراحل أو انعطافات، لكن هذا الأمر لتسهيل الدراسة فقط، لأن تجربة هذا الفنان هي كلٌّ جمالي يصعب وضع حدود وفواصل بين نقلاته الفنية، فهي بالغالب لم تكن متتابعة، وأنما متساوقة حيناً، وعودة للانعطافة السابقة من جديد، ومع ذلك ثمة خيارات لوضع مراحل أو انعطافات في هذه التجربة الغنية، على سبيل المثال، فإنّ الناقد طارق الشريف مثلاً، يضع ثلاث مراحل، أو تحولات فنية؛ يدرس من خلالها تجربة الفنان نذير نبعة، والتي يبدؤها من سنة 1955 حين اشترك لأول مرة في المعرض السنوي الذي كان يُقام حينها في متحف دمشق، وكانت اللوحة التي اشترك فيها هي لوحة مائية صغيرة، أطلق عليها اسم «السكير»، أما الفنان الناقد غازي الخالدي فيدرس هذه التجربة من خلال أربع مراحل:‏

مرحلة الأسطورة، والتعبير بلون أزرق برونزي، وكانت هذه المرحلة مرحلة التأمل والتفكير والبحث في معطيات لها صلة بالواقع، ولكنه وظفها أسطورياً خيالياً. والمرحلة الثانية، كانت مرحلة التجريد الباريسية، رسم خلالها عدة لوحات تجريدية، فيها لونه الشرقي الحار، وفيها حرصه أن يكون التجريد بحثاً بصرياً متكاملاً. وتمتاز هذه المرحلة بتداخل الألوان وتمازجها ضمن المساحة الواحدة. فيما المرحلة الثالثة، فكانت مرحلة العودة للواقعية والطبيعة يرى ويحس ويرسم في تفاصيلها حتى زخرفة الدانتيل في وشاح المرأة التي يرسمها كمتصوف. وأما المرحلة الرابعة، تلك التي كان يرسم خلالها بلون بني واحد؛ أشكالاً توحي بالجبال والوديان والأرض التي تتحرك من خلال لمسات عريضة.‏

واقعيات ملونة‏

لكن يُمكن أيضاً أن نحدد تحولات هذه التجربة من خلال أماكن إقامته، حيث كان ثمة نقلة فنية تحصل بعد إقامته في مكان ما، فاللوحات التي اشتغلها بعد عودته في مصر، تختلف عن اللوحات التي أنجزها بعد عودته من باريس، كما تتمايز قليلاً عن اللوحات التي اشتغلها تجريدياً خلال جولاته في الساحل السوري، كما يُمكن تصنيفها من خلال الشغل الفني، والمواضيع التي تناولها في لوحاته، كأن نقول مرحلة لوحات الغرافيك، أو مجموعة لوحات التجريد، ومرحلة الغنائية اللونية المفعمة بعناصر التراث المحلي ورموزه.‏

مع ذلك سيكون المعرض الفردي الأول الذي أقامه سنة 1965 في «صالة الفن الحديث العالمي» في دمشق، ليس نهاية لمرحلة وبداية مرحلة أخرى، بل هو بداية لتلمس تجربة ستنطلق مُحلقة في سماء الإبداع لا تهدأ على جمال أبداً، ومن حينها، وحتى سنة 2003، سيكون للفنان نذير نبعة معرض واحد على الأقل كل سنة، باستثناء عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وكان آخر معرض فردي أقامه في صالة تجليات بدمشق بداية هذا القرن، معرضاً استعادياً عرض خلاله لوحات من مختلف مراحل وعمر تجربته الفنية الطويلة، وقد جاء المعرض، وكأنه جملة معارض في معرضٍ واحد. جاء تماماً، كمن يقدم نتاجه الإبداعي السابق، الذي أصدره متفرقاً في مجموعات ودواوين على مراحل، ثمّ يعود لجمعه، وإصداره ضمن «الأعمال الكاملة».‏

وقبل الدخول في المواضيع الأكثر تناولاً في لوحة نذير نبعة، سنشير إلى مجموعة اللوحات التي أنجزها وصنفها النقاد تحت اتجاه التجريد، غير أن تجريد نذير نبعة كان يختلف عن التجريد الذي اشتغل عليه الفنانون الآخرون، سواء كان ذلك لدى الفنانين المؤسسين لهذا المذهب الفني، أو لدى الفنانين الذين تأثروا بهذه المدرسة.‏

ست الحسن ووصيفاتها الدمشقيات‏

في مجموعة هذه الأعمال، فإنّ الفنان نذير نبعة لم يذهب صوب أي الاتجاهين السابقين، وأنما كانت تستهوي الرجل مناظر الجروف الصخرية في مرتفعات الساحل السوري، وكذلك الجدران القديمة، وبعض مشاهد الطبيعة التي أثارته تلويناً فقط، تلك الجروف الصخرية والجدران الملونة بعشرات الألوان سواء لجهة حركة ضوء الشمس، أو لجهة نوعية الصخور، الأمر الذي حرّك لدى نذير نبعة هذه الحالة اللونية الجميلة وشكّل من خلالها مجموعة لوحات صُنفت على أنها تجريدية، وباستثناء هذه المجموعة، ومجموعة اللوحات الغرافيكية التي سبق الإشارة إليها، ويُمكن هنا أن نُشير إلى مجموعة اللوحات التي أنجزها تحت مُسمى «الدمشقيات» وفي هذه المجموعة فقد تخفف نذير نبعة من الحمولات الكثيرة التي عادةً ما يُفعم بها لوحته من رموز وعناصر، إضافة إلى التخفيف من التلوين، لصالح قوة الخط والرسم، كما اختزل الكثير من العناصر التي كان يفردها على سطح الخامة البيضاء، في هذه اللوحات أنسن نذير نبعة دمشق بفتاة حسناء، يُبرز بعض عناصر الجمال والخصب فيها، مرةً بإبراز الثديين، أو إعطاء أهمية لجمال الوجه ورشاقة اليدين، وغير ذلك من الترميز لهذه المدينة، التي لم يرها إلا فتاة فائقة الجمال غايتها العطاء والحب إلى آخر الزمان، وبعد ذلك؛ فإن لوحة نذير نبعة ستستقر على منحى واحد تقريباً وهي الواقعية، لكنها ليست التسجيلية، أو التوثيقية، وانما دعونا نطلق عليها «الواقعية السحرية» أسوة بالرواية السحرية التي ميزت الرواية لدى أدباء كتاب أمريكا اللاتينية، وبتلك السحرية تفوقت على كل ما كتبه الروائيون في مختلف أنحاء العالم، - أو على الأقل - ضاهتّهم إبداعاً. رغم أن البعض من النقاد كان أطلق على واقعية نذير نبعة مصطلحات كثيرة منها: المثالية، الخيالية، الرمزية، الرومانسية، وغير ذلك.‏

لوحة نذير نبعة، هي كل تلك «الواقعيات» السابقة، واقعية لاتُشبه غير نفسها، ذلك أن هذا الفنان يفرد على بياض لوحته عناصر من أزمنة مختلفة، فقد تكون المرأة من الزمن الحالي، لكن ما يُحيط بها هو من أزمنة بعيدة كفوانيس ومباخر ألف ليلة وليلة، المتماهية مع رمان وتفاح ذاكرة المزة التي كانت ذات حين، من هنا؛ فإنّ نذير نبعة لا يرسم الأشياء والأشخاص بحدِّ ذاتهم؛ وأنما يرسم بما يدلُّ عليهم. عندما نقول إنه يأخذ من الواقع، لا يعني أنه يستمد من الواقع الحالي، بل هو يؤلف، ويوالف أكثر من واقع معاً في لوحات تصويرية خارجة من تفاصيل ذاكرة الأمكنة السورية البصرية والذاكرة المحكية الشفاهية، وجميعها تتناغم بعشقٍ مع المُعاش اليومي، ومع كل سحر الأسطورة البعيدة.‏

ولعلّ أكثر ما اشتهرت به لوحة نذير نبعة، كان هذا الهاجس، الذي تشكّل لديه في الاحتفاء بالمرأة، وحضورها في معظم ما قدّم من لوحات، وهو في مجموعته «ست الحسن، ودمشقيات» يشعر المرء، وكأن نذير نبعة يُطارد وجهاً بعينه، وكأن ثمة امرأة واحدة يهفو قلبه إليها، وعندما كنا نسأله عن سر هذا الوجه الذي يتكرر بهذه الأنف النازل بحدة، والعيون المحتارة أحياناً، والساهمة طوراً، والتي تمتزج بخيبة تارةَ ثالثة، كان يُجيب: «هي ليست امرأة معينة، وأنما هو وجه مستوحى من مجموع النساء، ويُمثل جماليات المرأة المستوحاة من الحكايات الشعبية، لاسيما حكاية ست الحسن التي تُشبه عشتار القديمة في الأسطورة البابلية، والتي أبقت منها العامة الجمال والطيبة, أما السبب في استلهامها، فهي الرغبة في مخاطبة المشاهد بجماليات يعرفها، وليس جماليات مستوردة»، وهذا ما تبيّن من الأسماء التي أطلقها على اللوحات، فالاسم هنا ليس بالضرورة أن يكون معبّراً عن مضمون اللوحة، بل أقرب لما يعمد إليه بعض الآباء في إطلاق التسميات على أبنائهم تيمناً، أو عسى أن يحملوا بعضاً من صفات الاسم.‏

«ست الحسن» هذه ستحضر بذلك الوجه الكامل الوجد والتوق والشغف حيناً، في كامل الحيرة والغموض أحيانا كثيرة، حيث في هاتين العينين فقط يتزوج الشمس بالقمر، وتكتسي الصحاري بشيءٍ ما، غامض غير رملها.‏

alraee67@gmail.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية