تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


المؤامرة... والبحث عن مركز القيادة والسيطرة

شؤون سياسية
الاثنين 18-2-2013م
 عبد الرحمن غنيم

حين ذكرت صحيفة « النيويورك تايمز « مؤخراً بأن البيت الأبيض رفض خطة كلينتون - باتريوس التي وضعت في الصيف الماضي لتسليح المعارضة السورية وأن هذا الرفض

كان وراءه دافعان أولهما عدم التورط بالصراع وثانيهما الخشية من وقوع الأسلحة في الأيدي الخطأ , فإنها كانت تشير في الواقع إلى إشكالية تستوجب وقوف الباحثين عندها بإمعان . فإذا كان البيت الأبيض قد رفض الخطة , ولكن تسليح المجموعات الإرهابية وتدريبها قد تم بالفعل , ووقعت الأسلحة المتطورة أمريكية وغير أمريكية في أيدي « جبهة النصرة « التابعة للقاعدة وغيرها من العصابات الإرهابية , فهل حدث هذا بالصدفة ؟ وهل بات الماء يجري من تحت أرجل المسؤولين الأمريكيين بحيث لا يتحكمون بلعبة خطيرة مثل لعبة استهداف سورية ؟ .‏

من المؤكد أنه سيأتي يوم يكشفُ فيه النقاب عن تفاصيل المؤامرة الدولية , أو بتعبير أدق الحرب , التي شنّت على سورية , وعن حقيقة الأطراف التي عبّئت مسبقاً ولاحقاً لأداء الأدوار المرسومة في هذه الحرب . ومع أنه باتت تتوفر لدينا الكثير من المعلومات عن أطراف هذه الحرب وأدواتها , إلا أن هناك سؤالاً جوهرياً يطرحُ نفسه : هل أديرت هذه الحرب من طرف غرفة عمليات واحدة أم من قبل غرف عمليات متعددة ؟ .‏

في محاولة الإجابة على هذا السؤال , نقول :‏

- إن خطة بندر - فيلتمان التي جرى كشفها منذ وقت مبكر تحدثت عن الخلايا اللازمة لتنفيذ الخطة , ولكنها لم تذكر شيئاً عن مركز السيطرة والتحكم . وبطلا الخطة تسلم أولهما أجهزة المخابرات السعودية , بينما نقل الثاني للعمل ضمن الأمانة العامة للأمم المتحدة , ما يشير إلى أهمية دور الجهتين في تنفيذ الخطة . لكن قيادة الخطة ككل أمر مختلف .‏

- إن لقاء الرئيس أوباما مع عدد من موظفي وزارة الخارجية الأمريكية المسؤولين عن إدارة « الربيع العربي « يوم 19 أيار 2011 كشف عن دور لوزارة الخارجية الأمريكية , ولشركة غوغل , وبالطبع لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية . ولكنه لم يكشف بالتأكيد عن مركز السيطرة والتحكم الذي يفترض قيامه بإدارة الأحداث .‏

إن حجم الحرب التي شنّت على المنطقة العربية , وخاصة على سورية , يكشف بشكل لا لبس فيه عن انخراط أطراف كثيرة في هذه الحرب . ومن الطبيعي الافتراض بأن هناك خطة شاملة لحظت الدور المطلوب أداؤه من كلّ طرف . لكن مثل هذه الخطة التي تقوم أساساً على نظرية الاحتمالات لا تستطيع وحدها ضمان الإدارة المتكاملة للصراع . فلا بدّ منطقياً من وجود مركز للسيطرة والتحكم يتولى إدارة الصراع من جهة , وتحديد متطلبات تطور هذا الصراع من جهة ثانية . ولعل الأمر تطلب أكثر من مركز واحد لإدارة الصراع , كأن يكون هناك مركز يدير الصراع من الجانب السياسي والدبلوماسي , وثان يديرالصراع من الجانب الإعلامي , وثالث يدير الصراع من الجانب المالي والاقتصادي , ورابع يدير الصراع من الجانب الأمني والعسكري . وربما قيل بأن الأشكال الثلاثة الأولى من الصراع يمكن أن تتم ممارستها من قبل الأطراف المشاركة على هدي خطط مسبقة وضعت بين أيدي الجهات المعنية , ويمكن تطويرها حسب الحاجة في ضوء تطورات الصراع , أما الجانب الأمني والعسكري فإنه يحتاج إلى مركز للسيطرة والتحكم , أي إلى قيادة تدير العمليات على مدار الساعة وإدارة تعمل تحت إمرة هذه القيادة . ومن العبث الادّعاء بأن قيادة ما يسمّى بـ « الجيش الحر « هي المعنية الأولى بإدارة الصراع في شقه الأمني والعسكري , كما أنه من العبث القول بأن قيادة « جبهة النصرة « هي المعنية . ففوق هاتين القيادتين هناك قيادة أعلى هي التي يتطلب الموقف البحث في هويتها .‏

إن الأدوات الأساسية التي استخدمت في الحرب - كما هو معروف - تمثلت في المخدر الفعال , وفي ضخّ المال , وفي الإعلام الدجّال , وفي السلاح القتال , وفي أجهزة الاتصال . وكل هذه الأدوات جرى ضخّها من خارج سورية إلى داخلها . ومعروف أن أطرافاً كثيرة ساهمت في عملية الضخّ . ولكن , هل أديرت هذه العمليات والعمليات الميدانية التي ترتبت عليها بشكل عشوائي أم كان هناك مركز للتحكم والسيطرة أدار العملية ؟ .‏

لعل الدور الذي لعبته أجهزة الاتصال بشكل خاص يكشف عن الحقيقة القائلة بوجود مركز للسيطرة والتحكم أو أكثر .‏

تبيّن المعطيات أنه قبل بدء محاولة إثارة الفتنة في سورية جرى إعداد أجهزة الاتصال التي تمكن المتورطين من التواصل مع جهات معينة في الخارج . ففي اليوم الثاني لبدء الحراك في درعا وجهت قناة الجزيرة سؤالاً لأحد قادة المعارضة في باريس عن الكيفية التي علموا فيها بما يحدث في درعا رغم قولهم بأن الاتصالات الهاتفية قد قطعت , فقال إنه جرى الاحتياط مسبقاً بتوفير شرائح من الأقطار المجاورة للهواتف الخلوية . وهذه الواقعة تكفي للدلالة على أن المؤامرة كانت محبوكة , وأن الأحداث لم تكن عفوية بل مفتعلة , وأن أجهزة الاتصال مثل المخدر الفعال والسلاح القتال والإعلام الدجال والإغواء بالمال كانت كلها أدوات معتمدة ومهيّأة للعمل قبل الشروع في التحرك . ومع ذلك فإن ضخ أجهزة الاتصال المتطورة جاء على مراحل .‏

يفترض البعض أن دور أجهزة الاتصال هو تمكين المتورطين من التواصل مع أجهزة الإعلام الخارجية أو مع القيادات الخارجية بعيداً عن شبكة الاتصالات السورية الخاضعة للرقابة . لكن هذه العملية لا تتطلب أجهزة اتصال بالغة التطور أو مخصصة للاستخدامات العسكرية . ثم إن الأمر لم يقف عند هذا الحد , فقد وجدنا ضباطاً فرنسيين ينشؤون ويديرون مراكز اتصالات إلكترونية بالغة التطور في كل من الزبداني وعرسال وبابا عمرو , كما وجدنا ألمانيا تخصص سفينة قيادة وتجسس للعمل مقابل بانياس على الساحل السوري . وحين ضربت أو فككت أو أبعدت هذه المراكز , عمدت بريطانيا والولايات المتحدة إلى ضخ أجهزة اتصال أكثر تطوراً للعصابات المسلحة , كما جرى الحديث عن ضباط يتواجدون في الأردن وتركيا لخدمة أغراض الاتصال . فما الذي جعل مسألة الاتصالات ترقى في أهميتها حتى على نوعية الأسلحة التي جرى تطويرها تباعاً وفق متطلبات الصراع على الأرض ؟ .‏

من خلال ما نشر حتى الآن , نعرف أن الغاية من أجهزة الاتصال المتطورة هي تمكين العصابات الإرهابية المسلحة من معرفة أماكن تمركز الجيش السوري وتحركه , وبالتالي مساعدتها على اختيار طرق التسلل والهجوم . ومثل هذه المهمة تفترض أن أقمار التجسس الصناعية العائدة للدول المشاركة في الحرب تقوم بمهام الرصد , وأنها تعطي التوجيهات للمسلحين عبر أجهزة الاتصال في ضوء عمليات الرصد هذه . ولو افترضنا أن هذه هي المهمة الوحيدة لأجهزة الاتصال المتطورة , فإنها تعني وجود غرفة أو غرف للعمليات تتلقى المعلومات من الأقمار الصناعية ووسائل الاستطلاع الأخرى إن وجدت , وتصدر التعليمات للمسلحين على أساسها بتنفيذ العمليات .‏

في حالة مثل هذه , نستطيع افتراض أمرين :‏

1 - أن أقمار التجسس الأساسية المعنية هي الأقمار الصناعية الأمريكية والإسرائيلية . وربما لعبت أقمار أوروبية أخرى أدواراً مساعدة .‏

2 - أنه للاستفادة من المعلومات التجسسية وإدارة العمليات على الأرض لا يعقل الاعتماد على غرف عمليات متعددة منفصلة عن بعضها البعض , وإنما يجب أن تكون هناك غرفة عمليات مركزية تصب فيها كل المعلومات .‏

من الطبيعي في هذه الحالة أن نتساءل : أين توجد غرفة العمليات المركزية هذه ؟‏

هناك احتمالات عديدة للإجابة على هذا السؤال . فقد يرى البعض أنها في قيادة المنطقة الوسطى الأمريكية في قاعدة العديد في قطر , أو أنها غرفة عمليات تابعة لها في أحد الأقطار المجاورة لسورية , مثل تركيا أو الأردن أو الكيان الصهيوني . لكن القراءة الواعية لطبيعة العمليات التي نفذتها العصابات الإرهابية تثبت وجود دور جوهري وأساسي للموساد الصهيوني في إدارة هذه العمليات . فإما أن غرفة العمليات المركزية أو المشتركة هذه تقع في فلسطين المحتلة ويديرها أو في إدارتها ضباط صهاينة , وتستعين بالمعلومات الواردة إليها من الأطراف الأخرى , أو أن غرفة العمليات هذه توجد في مكان آخر , ولكنها تتلقى معلومات وأوامر عمليات من الكيان الصهيوني وتأمر بتنفيذها . وفي الحالتين , نحن أمام دور مؤكد يقوم به الكيان الصهيوني في إدارة العمليات الإرهابية وتحديد الأهداف المرسومة لها وسبل تنفيذها .‏

إن الفارق بين الحالتين مهم عملياً , وليس مجرّد فارق شكلي . فأمام الفرضية المنطقية القائلة بأن أجهزة الاتصال المتطورة الموضوعة بين أيدي العصابات الإرهابية المسلحة متصلة بشكل أو بآخر بغرفة العمليات المركزية , فإن هذه الغرفة ستكون هي المتحكمة بعمليات الإرهاب , تحكمها بمسألة تحديد نوعية الأسلحة التي توضع بين يديه . فبوسعها أن تأمر بمواصلة عمليات الإرهاب أو أن توقفها . وبوسعها أن تزود الإرهابيين بأسلحة أكثر تطوراً أو أن تحجب ذلك عنهم . وهنا أمام هذا الاستنتاج , فإن ما قالته صحيفة « النيويورك تايمز « , وذكرناه في البداية , عن رفض البيت الأبيض لخطة كلينتون - باتريوس , يرجح أن غرفة العمليات المركزية التي أدارت عملية تسليح العصابات الإرهابية وتحديد أهداف عملياتها لم تكن غرفة عمليات أمريكية , بل إسرائيلية . ونقول إسرائيلية لأننا لا نستطيع ترجيح الافتراض بأن هذه الغرفة المركزية تركية أو أردنية أو سعودية أو قطرية حتى وإن كانت هذه الجهات مستعدة للتعاون مع الموساد . فالأرجح أن يحدد الموساد لها مهامها لا أن تحدد هي بعض المهام للموساد .‏

إذا صحّ هذا الاستنتاج , فإن له دلالة في غاية الخطورة , وهي أنه حتى لو قررت الولايات المتحدة وقف الحرب على سورية , فإن كل الأطراف الأخرى - باستثناء العدو الصهيوني - يرجح أن تلتزم بوقف هذه الحرب بكل أشكالها , أما العدو الصهيوني فسيكون بوسعه مواصلة استغلال المسلحين المرتبطين معه عبر أجهزة الاتصال إلى أبعد مدى ممكن .‏

قد يقال هنا بأن التزاماً سياسياً أمريكياً لا بدّ وأن يشكل عنصراً ضاغطاً على الكيان الصهيوني . وهذا صحيح . لكن خضوع الكيان الصهيوني لهذا الالتزام قد يكون نسبياً بمعنى أن يتظاهر هذا الكيان بالالتزام , ولكنه يواصل استغلال أدوات السيطرة والتحكم الموجودة بين يديه لمتابعة النشاط الإرهابي , مدّعياً بأن الأمر يتعلق بتمرّد العصابات الإرهابية المسلحة , وعدم استجابتها لأيّ قرار دولي يتطلب وقف العنف .‏

طبيعي في مثل هذه الحالة الافتراض بأنّ الأمريكيين ليسوا غائبين عن معرفة حقيقة ما يحدث . ولكنّ موقفهم من استمرار الكيان الصهيوني في إدارة الإرهاب في سورية , سيماثل موقفهم من استمرار الاستيطان الصهيوني في القدس والضفة الغربية , وكذلك موقفهم من الاعتداءات الصهيونية , بمعنى أنهم يلجؤون إلى تبرير السلوك الصهيوني والتستر على جرائم الصهاينة وحمايتهم من الإدانة باللجوء إلى الفيتو في مجلس الأمن كلما استلزم الأمر . وسيكون بوسع الأمريكيين الادّعاء بأنهم ليسوا مسؤولين عن وجود « جبهة النصرة « في سورية , أو تسرّب الأسلحة المتطورة إليها , وأنه لا أحد يملك سلطة السيطرة على إرهابييها , وأن العناصر التي تلجأ إلى ممارسة الإرهاب والعنف من خارج جبهة النصرة هي عناصر متمردة لا سيطرة عليها لأحد .‏

في الواقع أن ما جرى مؤخراً يشير إلى تفكير الصهاينة بلعب دور أكبر في التدخل في سورية مستفيدين من الوضع الذي أوجدته المؤامرة الدولية التي تتم لحسابهم . فلقد ذكرت صحيفة صاندي تايمز مؤخراً أن إسرائيل تبحث في إنشاء منطقة عازلة تنشر فيها قوات لها داخل الأراضي السورية بعمق 15 كيلومتراً . وأنها تفكر في إبقاء هذه القوات إلى مدى طويل إذا لزم الأمر . ومثل هذا التفكير يجب أن يقارن بالتفكير المسيطر على عقل أردوغان في محاولة اقتطاع جزء من الأراضي السورية في الشمال , وهذا ما كشف عنه أيضاً المحلل السياسي العسكري الصهيوني روني أدنييل على القناة الثانية الصهيونية . وهنا , يبدو أن اللاعبين اللذين يفكران بالاستفادة المباشرة , وهما تركيا وإسرائيل , يشعران بإمكانية استغلال الموقف لاغتصاب أراض سورية , أو لنقل إنهما يفكران بتنفيذ أطماعهما التوسعية , وأن إبقاء نشاط العصابات الإرهابية المسلحة وتغذية هذا النشاط يخدم خططهما في هذا السياق . فإذا كان مثل هذا التفكير مبنياً على استغلال العصابات الإرهابية المسلحة ومتابعة إدارة نشاطها الإجرامي , فهذا يرجح أن الغرفة المركزية للتحكم والسيطرة التي تدار منها هذه العصابات موجودة بالفعل في الكيان الصهيوني وأن المقر الموجود في تركيا إنما هو تابع لتلك الغرفة , ومن المؤكد وجود مقرات أخرى في أماكن أخرى ولكنها تؤدي أدواراً فرعية جزئية حسب الموقع والاختصاص .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية