تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ليـــس حلمــاً.. وإنمـــا صعقـــات إلكترونيـــة

ثقافـــــــة
الاثنين 21-5-2012
هفاف ميهوب

حتماً.. لم يكن سهلاً انتقال الإنسان من رواية المعلومات والمعارف بشكلٍ شفهي إلى كتابتها وتخزينها ولو نقشاً على جدارٍ هو ذاكرة البشرية الأولى التي لا تعرف النسيان.. رغم ذلك وعندما خطَّ الإله «أوزيريس» أول نقوش الكتابة على الجدران, صاحت به زوجته «إيزيس» محذِّرة: «هذه النقوش سوف تجعل البشر يفقدون ذاكرتهم..

أيضاً.. عندما اخترع «غوتنبرغ» المطبعة, هبَّ أحد رواد عصر النهضة صارخاً: «إنه لأمرٌ مخجل أن يمتلك الإنسان كتاباً مطبوعاً».. قال هذا لأنه كان يعتقد أن قيمة الكتاب تكمن أن تخطّه يد البشرية وذاكرتها الغنية..‏

بعدها, وشيئاً فشيئاً بدأ الكتاب بالانتشار وقد كان سريعاً في إثباتِ مكانته وأهميته وإلى أن بات الكنز الذي يستمد منه الإنسان قيمته وثقافته وكل ما يجعل من ذاكرته واسعة الإطلاع كموسوعة معرفية..‏

فجأة, داهمنا عصر العولمة وبثورة معلوماته.. تلك التي أطاحت بذاكرتنا بعد أن فرضت عليها النسيان.. نسيان كل معارفها وما يُفترض أن يُنمّي مداركها, وبالصورةِ الناطقة والمعلومة الجذابة والخارقة وسواهما مما حملته إلينا شاشات أجهزة الاتصالات التي فرضت على الإنسان الانعزال ضمن حدودٍ لم تعد تتجاوز غرفته.. العالم الصغير الذي بات بإمكانه أن يتواصل من خلاله مع شتى ثقافات العالم, وهو ما حوَّل عالمه المتَّسع والغني بوسائل التواصل الثقافي والفكري والحضاري, إلى قرية صغيرة يتمُّ التنقل ضمنها عبر ذبذباتٍ وإشاراتٍ إلكترونية..‏

كل هذا هلَّل له كُثرٌ واجدين فيه, أمراً حضارياً وأساسياً وضرورياً وأكثر قدرة على جعل الإنسان أشد انفتاحاً على الحضارات والثقافات الأخرى, وبسرعةٍ هائلة لم يكن يتوقع امتلاكها إلا في الحلم..‏

لكن, ألا يُفترض بنا أن نشعر أن ذاك الحلم بات أشبه بكابوسٍ جثم على ذاكرتنا وواقعنا وأفكارنا وثقافتنا ومعارفنا إلى أن أصبحنا مغيَّبين عما نحتاجه ويرتقي بنا, وأيضاً إلى أن أصبحنا بحاجة إلى حواسٍ خارقة في استشعارها عن بُعدٍ, وبوعي يمكِّنها من التقاط ما أمكن من معارفٍ وآداب تولد كل يوم وكل ساعة, ودون أن تكون أهداف ناشريها ومروِّجيها خالصة لوجه مصالحهم وأهدافهم الشخصية والأهم السياسية؟..‏

ألا يُفترض أن نُدرك أن تلك الشاشات الإلكترونية باتت تُلهينا بالصورة أكثر مما تُغنينا بالفكرة أو المعلومة, وأنها خطفت مكانة الكتاب في عمقه ومعانيه وتفاصيله ليتحوَّل بأمر غاياتها إلى فكرةٍ مختزلة لا تغني الذاكرة الباحثة عن كل كلمة تحتاجها لديمومتها اليقظة والحيِّة.‏

أخيراً.. وعلى سبيل التذكير بخيبة حلمنا, وخصوصاً ونحن نشهد مقدار ما لعبت أجهزة الدمار الإلكترونية دوراً في خرابنا, علينا التساؤل: من الذي يهيمن على حركة البثِّ الكونية ولِمَ لم نُسخِّر ما صدَّرته إلينا التقنيات بطريقةٍ تزيد من رُقيِّنا وثقافتنا وحضارتنا لا بطريقة زادت من جهلنا واندفاعا نحو أجهزة اتصالات جعلتنا نتشهَّى لو عادت آدابنا تُتلى بطريقة الحكاياتِ التي كثيراً ما أغنتْ الآداب العالمية..‏

بالتأكيد علينا أن نكون أكثر وعياً في معرفة من يهمّه أن يعيش عالمنا في حلمٍ لا تؤرِّقه مصالح الأقوى والأكثر استعباداً وتخديراً لعقولنا مثلما محواً لذاكرتنا..‏

أما الأهم فهو معرفة إلى أين سيأخذنا هذا العالم بعد أن حوَّلنا إلى أرقامٍ على شاشاتٍ هيمنته, بل إلى كائناتٍ آلية. تعيش وتأكل وتفكر وتتبنَّى الأفكار والقناعات والثقافات حسبما يشاء صنَّاع ومصدري أجهزة التحكُّم بالعالم وحضارته وثقافته وعقليته..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية