تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حوادث دمشق العصرية

آراء
الأربعاء 20/2/2008
نهلة سوسو

إن سئلت ما أول كتاب قرأته ? أجيب دون تفكير:(سيف بن ذي يزن)!

وأتلبث قليلاً في الإجابة إن تغير السؤال:ما أمتع كتاب قرأته?,لأن قوافل الكتب تبدأ بالعبور في ذاكرتي سريعاً,فيها الروايات والقصص والأبحاث والدراسات ليتجاوزها المؤشر جميعاً,‏‏

ويتوقف عند كتاب الحلاق البديري الذي روى حوادث دمشق,في القرن الثامن عشر,ببراعة مراقب,وبراءة قلم خالٍ من التكلف ,أزعم أن هذا الكتاب هو الأمتع مما قرأت على الإطلاق,رغم أنه لم يأت بفلسفة خاصة,ولا ببلاغة فذة,ولا ببحث عن عشبة الخلود,على طريقة جلجامش,فالكتاب ببساطة,مرآة مذهلة لوجه مدينة,اختفى منها اليوم كل أحياء عصر البديري,وباتواجزءاً من ترابها وشجرها وثمرها,لكن الحياة,لم تنقطع فيها ثانية واحدة,ففي بيوت أولئك الراحلين مازلنا نواصل الحياة,وعلى أصداء خطواتهم مازلنا نواصل الحياة أصداء خطواتهم مازلنا نعبر طرقات ودروب الحارات القديمة والأسواق,ونصلي في الكنائس والجوامع التي صلوا فيها,وهذا هو سر متعة هذا الكتاب الذي لم يجاره كتاب آخر في الخصائص,حتى لو كان موسوعة شهيرة,دونت باصطناع ,ويواصل الكتبة سرقة موادها,ونشرها في غير وسيلة إعلامية!‏‏

ترى ماذا لو استيقظ البديري في أيامنا هذه,وأي حوادث سيختار لتدوينها,وهي حوادث باتت تجري في أركان دمشق الأربعة لسبب ما..‏‏

وكنت أسمع بالكثير منها فتمر بي,مرور الكرام,كما يقال,لأنني مطبوعة بالشك في كل ما أسمعه ولا أراه,فللناس طرائق غريبة,عجيبة في الرواية,تنقص وتضيف,وتهول,وتنمق,وتضفي من آمالها,وأحلامها,وعقد نقصها ونقاط ضعفها..‏‏

إلى أن اختارني الحظ,أو المصادفة,أو القدر لبطولة إحدى هذه القصص التي ما لبثت أن سمعتها على ألسنة بعضهم مغايرة جداً للحقيقة!‏‏

وإنصافاً للحقيقة المظلومة في كل العصور,أدون هذه الحادثة الدمشقية العصرية,علّي بتواضع شديد أنحو نحو الحلاق البديري,فقد كنت عائدة إلى منزلي ليل الأربعاء,السادس من شباط في الساعة التاسعة إلا ربعاً,وأحمل بين يدي حملاً ثقيلاً بالإضافة إلى حقيبة يدي الثقيلة المعلقة على كتفي,وفي محيط بيتي حديقة عامة صغيرة محاطة من جهاتها الثلاث (عدا الشارع العام) بمعبر عرضه متران,تنتصب حولها أعمدة نور شاهقة,لم أرها مضاءة ولو مرة واحدة,منذ سبعة عشر عاماً (يقال إن الزعران الذين يتجددون عاماً بعد عام,يقومون بكسر مصابيحها ليمضوا سهراتهم ولقاءاتهم,وتعاطيهم في الظلام).‏‏

سرت في المعبر الأقل وحشة,متتبعة أضواء النوافذ العالية,وإذ بشاب يأتي من الجهة المقابلة,فيتقاطع الطريق بيننا في المنتصف,وبينما يصل إلى نهاية المعبر الذي بات خلفياً (وقد فاتني أنه يستطلع خلو الشارع من المارة ليهاجمني ) أصل أنا على بعد متر ونصف من الشارع الرئيسي الذي بدوره لا ينعم إلا بضوء السيارات العابرة..‏‏

وأشعر بخطوات تتبعني,وأنفاس مرتبكة تتردد قرب أذني..ألصقت ظهري بسور الحديقة لأحتمي من الاعتداء,وسألته:ماذا تريد?فكانت عيناه غائمتين,معتمتين,مضطربتين,وهو صامت يرتجف.‏‏

طلبت منه الانصراف,فإذ به يباغتني بالانقضاض على ظهري,ويغلق فمي بيده اليسرى,ثم يلطمني,لطماً عنيفاً,متواتراً على وجهي وذراعي,ويحاول إلقائي على الأرض..‏‏

دام اشتباكي معه ما يقارب عشر دقائق,وسقط من يدي كل ما أحمل عدا الحقيبة التي فيها كل الوثائق والأوراق والبطاقة المصرفية الخاصة بالراتب,وتحطمت النظارة الطبية (التي فقدانها وحده أشعرني باختلال التوازن) وتبعثرت المفاتيح التي انكسرت حمالتها..‏‏

قبل أن يهرب ويتركني مدماة الوجه..ويتقدم لمساعدتي رجل شهم,لملم حوائجي وأوصلني إلى بيتي ثم تحول بعد يومين إلى شاهد في مخفر شرطة التضامن بعد أن تعرفت على المعتدي ,وسيق كما قيل لي إلى محكمة الأحداث!‏‏

أعترف أن واقعية القصة وتفاصيلها,غيرت الكثير من مشاعري,وأولها معنى الإحساس بالأمن,وثانيها مشاركة بطلات عشرات القصص المشابهة التي حدثت لفتيات وسيدات في أوائل الليل في هذا الحي المكتظ بالسكان خلال الشهور الأخيرة,ولكم فجعت بأن هذا المعتدي الذي لم يتدرب بعد على الإجرام الكامل مازال حدثاً, وتداعت إليّ عشرات الأسئلة,وأنا أرد على أسئلة ضباط الشرطة والجنائية,عن سبب إهمال إضاءة الشوارع إهمالاً تاماً وكاملاً في الأحياء الشعبية أو العشوائية (والظلام يستدعي نوازع الإجرام البشري, كما يعلم المال السائب الحرام ) وهل خطر للمسؤولين المولجين بالحماية أو الخدمات العامة أن يتجولوا مرة واحدة في هذه الأحياء وإذا بقينا نتحدث عن ضرورة رعاية الشباب وتعليمهم واستيعابهم في مشاريع تثقيف وعمل,كما نتحدث عن الأبراج ونبوءاتها,فإلى أين سنصل بعد قليل من السنوات?وإذا كنت قد ذهبت بنفسي إلى مكتب السيد المحافظ,لأستجير به,ليس من أجلي,بل من أجل أمن الحي بأسره,كي يوعز إلى المعنيين,لإيجاد حل منطقي لحديقة,بات محيطها دورات مياه لعشرات العابرين والمقيمين, حتى أصبح حديث الجيران الدائم,الروائح القاتلة التي لا تزيلها مياه نهر بأكمله كما بات محيطها المفتوح المعتم,مسرحاً للجرائم الصغيرة (أرشيف مخفر التضامن يروي الكثير منها ),المهم أنني أخرجت من قبل بعض موظفي مكتب السيد المحافظ,دون أن أسأل عن حاجتي بطريقة غير لائقة,حتى لا أقول طردت..وفي الواقع صبرت على ما جرى بانتظار فرصة أخرى..‏‏

أجلس الآن على نافذة هذه الصحيفة التي أحب,وأتنفس من خلالها أنقى الهواء الروحي,وأكبت الكثير من الأسئلة الفرعية,لأنني,حقاً,أحتاج إلى مراجعة ذاتية طويلة,عن حالنا,نحن الإعلاميين,وعن الموضوعات التي علينا اختيارها والشغل عليها في الانقلابات الاجتماعية العاصفة,القادمة إلينا,وأول ضحاياها الشبان,المنقطعون عن الدراسة,الملتحقون بسوق أعمال تهيئ لهم كل مناخات الانحراف (من اعتدى علي عامل بقالية),وتجعل الأسى على أزمنة ماضية أكثر بساطة,أقرب وسائل المواساة إلى القلب..ويبدو أيها القلب,أنك بحاجة إلى مناعة أكثر,لأن القادم كثير.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية