|
آراء ويغيبون -هكذا- دون مقدمات أو حتى تلويحة وداع.. وفي لحظات يغدو تاريخ هذا المرء أو ذاك,. وكأنه لم يكن فيصير مجرد ذكرى!.. ولا يبقى منه سوى خيالات يستحضرها الآخرون!! إنه لصعب أن تتحوّل حياة الإنسان إلى مجرد ذكرى! بعد كل ذلك الصخب والآمال والأحلام... وتغدو الأمكنة أيضاً فهارس لمخطوطات طالما كانت جميلة.. ولسيرةِ حياةٍ بكاملها. بأفراحها وأحزانها وتطلّعاتها: وكأنّ ممحاة تتولاها فلا تترك منها سوى الخيال والذكريات! وعلى هذا الطريق مشى صديقنا وزميلنا الصحفي المعروف محمد زعيتر.. وأنهاها باكراً وقبل التوقع والتخمين! فتنحى جانباً وترك تلك الطريق تسير بمن عليها في رحلة لا يدري أحدٌ منتهاها!! تعرّفت عليه في خريف 1969 فقد جمعتنا آنذاك زمالتنا في المعهد الإعلامي.. وكان هو ومحمد نور الله ومحمد علي أرمنازي ومحمد الخطيب, من كوادر جريدة البعث التي رشحتهم للدراسة في هذا المعهد وشهدت مدرسة »الغرير = الأخوة« بافتتاحه: أوّل معهد إعلامي في بلادنا.. فهنالك كانت محاضراتنا على يد أساتذة المعهد الإعلامي في برلين الشرقية, ومحاضرين عرب وسوريين. أول ما لفت نظر الزملاء الدارسين في هذا المعهد: هو هدوء محمد زعيتر وأخلاقياته التي تميّز بها طوال حياته.. فقد كان دارساً دؤوباً وعنصراً اجتماعياً جيداً حتى صار معظم من درسوا في هذا المعهد: أصدقاء له. ولا تطول السنوات بعد التخرّج حتى ينتقل هذا الصديق من جريدة البعث إلى جريدة الثورة التي أَعْمَلُ فيها.. فتجددت صداقتنا وزمالتنا واستمرّت حتى تقاعده ورحيله. في جريدة الثورة كان محمد زعيتر واحداً من المحررين البارزين فيها.. واللافت في مسيرته هذه أن الجميع أحبوه واحترموه منذ انتقاله وحتى تقاعده.. وعلى الأخصّ الزملاء في القسم السياسي وقسم الدراسات. بعد التقاعد كنا نتواصل عبر الهاتف وبعض الجلسات في نادي الصحفيين.. إلا السنوات الأخيرة الماضية حيث انقطع عنا إثر مرضه الذي لازمه حتى رحيله. وكنت مع الزميلين بشير الجلاد وطريف الحسيني: نتفقده هاتفياً ونطمئنّ عليه.. وكالعادة في كل عيد اتصلت بهما ليلة الوقفة لأني مسافر إلى اللاذقية ثم سألت طريفاً عنه فقال: اتصل به واطمئنّ عليه فحالته الصحية صعبة. وكذلك فعلت إلا أن أحداً في بيته لم يجبني. بعد عودتي من السفر أخبرني الزميل عبد الله مقداد بوفاة محمد زعيتر.. واتصلت بطريف فقال: نعم لقد توفي الرجل الطيب محمد وأنت في اللاذقية. إنني أعرف أن هذه الطريق الطويلة ستطوي كلّ الناس وليس في ذلك فرقٌ إلا في الأدوار!.. ومع ذلك فقد آلمني رحيل هذا الإنسان الذي أعده من الزملاء الأصدقاء الذين احتفظ لهم بمودة عميقة.. فطوال حياتنا وزمالتنا وصداقتنا: لم ألقَ منه ولم يلق غيري في صحيفتي البعث ثم الثورة إلا المحبة والوفاء واحترام الآخرين. وبرحيله تفقد الصحافة وتفقد فلسطين أحد أبنائها الذين عاشوا بين الناس ولا يحمل هؤلاء الناس لهم سوى المحبة والاحترام.. ومازاد الأسى أننا عدنا من السفر بعد أن انتهت أيام التعزية.. ولعلّ كثيراً من الزملاء لم يعرفوا بها: إذ كانت الصحف في عطلة العيد فلم يُنشر النعي ولم يدر كثير من الزملاء بمكان التعزية.. ولعلّ هذا الأمر يعيد إلى الواقع موضوع تواصل الصحفيين وخاصة بعد التقاعد. فخارج نطاق الصحف التي يعملون فيها, ليس هنالك من تواصل بينهم حتى وهم في عزّ شبابهم فكيف بهم بعد أن يتقاعدوا?!.. وهذا ما يطرح بقوة دور اتحادنا في هذه المسألة.. إذ لا يكفي أن يقتصر ذلك الدور على المشاركة في المناسبات.. بل المطلوب فعالية أكبر وخلق أجواء التلاقي, وإضفاء جوّ حميمي على حياة أعضائه وفيما بينهم.. فيكون ذلك التواصل أحد وجوه استمرار صفة »الأسرة الصحفية« بمعناها الحقيقي, إذ ليس هنالك معنى لكلمة »أسرة« إذا كان أبناؤها لا يرون بعضهم إلا لماماً!.. بل يكاد الكثير منهم لا يعرف شيئاً عن زملائه لا في السرّاء ولا في الضرّاء!.. فما جدوى تعبير »الأسرة الصحفية« أو »الأسرة الإعلامية«?! ولعلّ المؤسّي أكثر أن نسبة كبرى من الإعلاميين -وهم أعضاء في الاتحاد- لا يعرفون بعضهم إلا بالأسماء التي تُنشر مع كتاباتهم في الصحف أو تبثّ في الإذاعة والتلفزيون.. فمن في هذه الجريدة يعرفون بعضهم لكنهم لا يعرفون معظم العاملين في الصحف الأخرى وكذلك الأمر في الإذاعة والتلفزيون.. فكيف يتأتّى لإعلامٍ أن يكون ناجحاً; وحال أعضائه كما ذكرت.. بل وكيف لاتحاد أو نقابة مهنية: أن تنجح وأعضاؤها لا يعرفون بعضهم بنسبة غالبة?! إننا لا نملك إزاء رحيل الفقيد العزيز محمد زعيتر إلا التقدم لأبنائه وذويه بعزائنا وأملنا أن يلهمهم الله الصبر والسلوان. |
|