تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«الصــوت الغائــب»

معاً على الطريق
الخميس 20-9-2012
لينا كيلاني

الطبيعة تتحدث حتى في صمتها.. أما أصواتها فهي حديث عناصرها من نبات، وطير، وماء، وهواء، وحتى الأصداء.. ومَنْ منا لا يعرف همس الأمواج.. أو حنين الجبال.. أو صدى الأصداف؟ أصوات هي الموسيقا التي تتنوع في إيقاعاتها وتلويناتها..

تبثها الطبيعة في أرجاء العالم الذي يلفنا أو يضمنا في أعماقه.. وحتى الكون من حولنا له موسيقاه الخاصة به والتي لا تشبه في أنغامها أياً مما نعرفه. والصمت.. صمت الطبيعة ذاتها أليس نوعاً من الأصوات الخفية التي تفتح الآفاق أمام الإنسان للتفكير والتأمل في هذا الكون العظيم؟‏

••••••‏

والإنسان.. هذا الكائن الذكي كان يسمع بكل جوارحه لما تبثه الطبيعة من حوله من موسيقاها فإذا به يستلهم منها أعذب الألحان وأجملها.. وإذا به أيضاً يخترع آلات شتى متنوعة قادرة على أن تستحضر كل أصوات الطبيعة.. ولكن في أنغام تنسجم مع الطبيعة وإن لم تكن منها.‏

وها هي الآن الغابات تنحسر عن مساحات الأرض.. وها هي ألوف أنواع الفراشات حائرة في أن تظل موجودة أو أن ينقرض عديد منها.. وها هي المياه في السواقي والينابيع والأنهار بات تهرب من أمام أنظارنا.. فماذا إذن عن تلك الموسيقا المتآلفة في إيقاعها وتناغمها مع كل موجودات الطبيعة في نقائها وأصالتها؟ إنها باتت في خطر أيضاً فلم نعد نسمعها إما لغيابها بسبب ما أفسده الإنسان في الطبيعة، أو بسبب تلوث أسماعنا بضجيج الآلات وليس أولها السيارات ولا آخرها الطائرات والصواريخ وكل ما يصنعه الإنسان.‏

•••••••••‏

أنغام أو أصوات هي من الموسيقا وليست منها أصبحت تخترق أسماعنا من كل اتجاه وعبر كل الوسائل.. تصل إلينا أينما كنا وفي أي وقت كان في المنزل.. وفي الشارع.. وحتى في النزهات بين ما تبقى من الغابات.. تحملها إلينا حتى أجهزة هواتفنا النقالة.. وشاشات حواسيبنا الجوالة.. ولربما أيضاً ألعاب صغارنا أو أحذيتهم أو حقائبهم.‏

وماذا بعد؟.. بل إن هناك الكثير من هذه المصادر التي باتت تغزونا كما تغزو الفئران الحقول حتى لم يعد غريباً علينا أن تصبح الثلاجات في بيوتنا ناطقة، والغسالات تطلق الأنغام وتتمايل والثياب تغسل على هديرها، ولو أراد أحدنا أن تزوده الشركات المصنعة بسماعات لتلك الآلات العجيبة لفعلت.. ليس للغسالات فقط بل لكثير من الاجهزة الاخرى التي نعتمد عليها في حياتنا المعاصرة.‏

••••••••••‏

كل هذا وغيره لا نستطيع إلا أن نقول إنه يدخلنا في حقبة جديدة تبدأ بالاجهزة المنزلية المزودة بالقدرات الاضافية ولا نعرف أين تنتهي بنا.. بل إنها حقبة جديدة تدخلنا في حالة انفصال عن الطبيعة الأم فلا نعود نستذكر أصواتها، ولا نستحضر عوالمها، وكأننا تحولنا بفعل إنجازاتنا الحضارية ومخترعاتنا الآلية الى مجتمعات تعيش ضمن أجوائها الخاصة بعيداً عن أجواء الطبيعة الحاضنة لكل نشاطاتنا وتحركاتنا.‏

••••••••••‏

ها هي الحضارة إذن تسحبنا من عوالمنا النقية الحقيقية الى عوالم زائفة تغيم فيها علاقتنا المنسجمة مع إيقاع الكون لتدخلنا في عوالم لا تلوث فقط أسماعنا بل إنها قد تصيبها بالصمم فتلوث حياتنا بالتالي. وماذا لو لوثت وجداننا وأفكارنا فلا نعود نتواصل بين بعضنا بعضاً بمقدار ما نتواصل مع الآلات والمخترعات؟‏

•••••••‏

إن الناي المسحور في فم الراعي الذي كان ملهماً لا للشعراء فقط بل لكبار الموسيقيين الذين أطلقوا اسمه على موسيقاهم لم يعد هذا الناي يسترعي انتباه أي أحد منا حتى أطفالنا لا لأنهم لا يذهبون الى الحقول بل لأن الاستماع هكذا بالنسبة لتطور الموسيقا أصبح يعد نوعاً من التخلف أو الرجوع الى الوراء.‏

••••••••‏

والإنسان إن لم تكن له ذواكره التاريخية في كل مناحي الحياة ومن بينها الموسيقا فإنه سيغدو آلة تتحرك بآلة.. وربما تساءل: مَنْ الذي يتحكم بالآخر.. هل هو الذي يتحكم بالآلة؟ أم إن الآلة هي التي تتحكم به؟‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية