|
كتب وهل حدث وفكرنا بأن الكتاب هم مرضى حقاً بعلل وأوبئة يعجز عن علاجها الطب? أفكار كهذه واردة ولكن ماذا لو كان الكاتب مريضاً بالمعنى العضوي, ألا يقودنا هذا الى فحص علاقة المرض بالابداع خاصة وأن الأمثلة كثيرة?. يقول أبو الطيب المتنبي( وزائرتي كأن بها حياء/فليس تزور إلا في الظلام/ بذلت لها المطارف والحشايا/ فعافتها ونامت في عظامي) يحول المتنبي الحمى الى فتاة تتسلل في جنح الظلام كعاشقة تخشى أن يراها احد ولأن الحمى عارضة فستكون صور المرض الأقسى لدى المرضى المزمنين, , كالسياب مثلاً الرجل الذي كان له امتياز السل, يحمله بين ضلوعه في المنافي حتى مات في 24/12/1964 في المستشفى الامريكي في الكويت, يقول في قصيدة ( النهر والموت): (أجراس موتي في عروقي ترعش الرنين/ فيدلهم في دمي حنين/ الى رصاصة يشق ثلجها الزؤام/ أعماق صدري كالجحيم يشعل العظام). السكري اجتاح غسان كنفاني,لكنه لم يمنعه من الكتابة أو ممارسة العمل السياسي, ولا حتى من حب الحياة, هو الذي ظل جائعاً الى الملذات حتى استشهاده. السرطان هذا الذي لا ينجو منه احد أو كما يصفه أمجد ناصر (صائد الغفلات اللعين) السرطان يكاد يكون المرض الأشنع ففي سن معينة تقريباً لا ينجو منه أحد, سعد الله ونوس صارعه سنوات وكتب في خضم اشتباكه معه نصه الرائع( رحلة في مجاهيل موت عابر), تلك المرافعة الانسانية العالية في مديح الحياة, والانصات الى صوتها الدافىء, أمل دنقل وضعه سرطانه في معادلة ( الشعر والموت) كما يقول النقاد, حين كتب قصائده( أوراق الغرفة 8), أو سرطان حسين البرغوثي صاحب الإنجاز المدهش(الضوء الأزرق) و(سأكون بين اللوز) يقول (زارع الاشارات) كما يسميه اصدقاؤه أن مرضه جعله (زائداً عن الحاجة) في مستشفى رام الله, يوم جاء يراجع في وقت اجتياح, فبدا له أن السرطان تفاهة أمام الموتى الذين يتدفقون بالعشرات, كما يكتب ذلك في ( سأكون بين اللوز)ومن السرطان الى الشقيقة, مرض الشاعر نزيه أبو عفش الذي يعكس في قصائده حالته الصداعية المتفاقمة ويذوي في عناوين توغل في عذابات ألمه:( هكذا جئت.. هكذا أمضى),(مايشبه كلاماً أخيراً),(أهل التابوت) يفكر نزيه أبو عفش في الألم طويلاً, ويعكس على تاريخ البشرية معتبراً أن الألم المادة التي صنعت منها جميع العناصر الحية ويدعونا الى التفكير بالألم معه, لنعرف المادة الاساسية التي نتكون منها, نحن البشر التعساء. القاص جميل حتمل مات بعد معاناة من قلبه, و,قصصه المشبعة بالحزن تعكس حالة ذلك الإنسان الذي عاش انهيارات من الداخل والخارج, يقارن عبد الرحمن منيف بين السياب وحتمل ويقول:( كما أن الاثنين عاشا مرضاً قاهراً وكانا يعرفان, بل ويريان النهاية الوشيكة واذا كان مرض السياب تلا شيئاً لا قدرة له على منعه أو وقفه, فقد كان بإمكان جميل حتمل, أن يراوغ المرض, وبالتالي الموت على الأقل بتأجيل وقوعه, ولو لبعض الوقت لكن إصراراً ملعوناً تلبس هذا الإنسان, وجعله يندفع نحو الموت دون أية رغبة بالمقاومة), ولعلنا لا نستغرب ذلك العنوان الذي اختاره لإحدى مجموعاته( قصص المرضى.. قصص الجنون) فمرضه في نصه تحول الى سرد هذياني مؤلم. رياض الصالح الحسين, الشاعر المعروف بصممه, مات بفعل قصور كلوي, ورياض صاحب العنوانه المرضي منذ العمل الأول( خراب الدورة الدموية) استنزفه الألم طويلاً لكنه مع كل ذلك كان في صف الحياة واحداً من مداحيها ومريديها, يقول( الموتى عرفوا /ربما للمرة الأخيرة/ كم هي لذيذة حياة الأحياء). الشعراء الكحوليون الذين يقبعون تحت تهديد تشمع الكبد, لا أجد أفضل من آدم حاتم ليجسدهم, فهو الشخص الذي سخر من فكرة التشمع ذاتها حين تأكد من حالته, بأنه صار بإمكانه إنارة مدينة إذا ما انقطعت الكهرباء. يقول ميلان كونديرا الروائي التشيكي, في روايته ( الخلود): (عندما يصبح الألم حاداً يتلاشى العالم ويبقى كل منا وحيداً مع نفسه , الألم هو المدرسة الكبرى للأنانية) يعني الألم هو المدرسة الكبرى للابداع. |
|