تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الاعتذار بعد القتل

اراء
الأربعاء 21/5/2008
نهلة سوسو

يحظى الفيلم الأميركي (بصرف النظر عن مستواه ومحتواه) بالأولوية على شاشات العالم, بحيث لم يعد له منافس لا في دور العرض ولا على شاشات الفضائيات,

وأياً كانت هويتها, اللهم إلا تلك العروض المحدودة لما يسمى بالفيلم الأجنبي على هوامش المهرجانات الكبرى, حيث لا تمييز في الأجنبي المزعوم بين الأوروبي واللاتيني والإيراني والعربي, لكأن الأمركة هي هوية العالم, وما عداها أجنبي لا يستحق أكثر من الضيافة المؤقتة, والإقامة الطارئة, لأن الأجنبي لا حق له في حيازة الجنسية إلا بشروط صعبة..‏

ولقد جندّت السينما الأميركية أوسع المنافذ لها على محطات عربية, وبالأموال نفسها التي جندت لمحطات الفتاوى ويا فضيلة الشيخ عندما أبدل حفاض ابني ذي الستة شهور, هل يجوز شرعاً أن ألمس أعضاءه? وبين هذين العالمين الفضائيين هوة لا يمكن جسرها لا بالتقريب, ولا بالخيال رغم أنها من مصدر تمويلي واحد وموجهة إلى جمهور واحد, ففي محطات الفتاوى ذعر لا يوصف من اللمس والتواصل وفي الفيلم الأميركي (مرة أخرى بصرف النظر عن مستواه ومحتواه) تكرس المثلية عبر التعاطف الشديد مع الشاذ الذي ولد مختلفاً, ويلقى بسبب هذا الاختلاف الخلقي والخلُقي سوء الفهم والاضطهاد والقسوة, وهو طيب القلب, محب للآخرين, داعٍ للسلام والتسامح, يقدم الخدمات لكل محتاج.‏

أما المومس فتعلو إلى مرتبة القديسات, وتبدو بالضرورة, جميلة, جذابة وخفيفة كالفراشة البيضاء التي لا تحط إلا على الأزهار في المساكب النظيفة.. وهي الأفضل حين يسقط الرجل في مشاكله العائلية! وفي الفيلم الأميركي إياه ينجب الزوج الوسيم من الشقيقتين معاً, وبعد أن يموت في حادث طارىء (لزوم الدراما كي نعرف نهاية الصراع بين الأختين على رجل واحد) تدعو الأخت الكبرى (الزوجة) أختها الصغرى (العشيقة) إلى بيتها فتتذكران وتبكيان معاً, على أطلال الراحل, وفي غرفة نومه, وتقدم الزوجة لأختها السوار الذي ظنته لها, بعد اكتشافها أن الشعر المنقوش عليه هو أبيات لشاعر عشقه المغرمان معاً حين كانا يمارسان الحب بعيداً عن العيون, وبعد هذا كله تنتصر القيم العائلية على الطريقة الأميركية (المناقضة لقيم الأم التي تستفسر عن حلال لمس رضيعها) وتقرر الشقيقتان العيش معاً ونراهما تتجولان في حديقة القصر بين الورود المتفتحة, وفوقهما طائرة ورقية تلعب بها ابنة المرحوم »الشرعية« وينتهي تاريخ العلاقة المحرمة على أجمل وجه!‏

انتهى في الفيلم الأميركي عصر معالجة التمييز العنصري المشين بين الأسود والأبيض, وتحول (لزوم التقدم الأميركي الحضاري) إلى التمييز ضد الشذوذ الجنسي, وتحولت قيم العائلة التي في أصلها الإنساني الراقي لا تأتي متأخرة بعد سفاح المحارم, ولا من الزواج بعد إنجاب ولدين أو أكثر, لأن المساكنة دون عقد زواج لا تلزم بتقاسم الثروة بعد الطلاق (هم يفكرون بخسائر الطلاق, قبل الإقدام على الزواج), وتكرس في الأفلام الأميركية, بدأب مسألة حضانة الأب (بعد استبعاد الأم لسبب أو لآخر) لطفل رضيع, أو أطفال صغار كبديل عن الأم, ودائماً بحلول على الطريقة الأميركية, بدءاً من إرضاعه, ومروراً بتنظيفه, وانتهاءً بتنزيهه في الحدائق ورواية القصص له قبيل النوم, وهو استخفاف بغريزة الأمومة, وانتقاص من دورها العاطفي الصبور!‏

معاكسة الطبيعة البشرية ومحاربتها, هو الوجه المرئي للفن الأميركي, أما العمق الأبعد فهو تفتيت التكوينات الاجتماعية التي تقف عثرة أمام توحش رأس المال التي لم يبق منها إلا الأسرة, هذا إذا تجاوزنا أحزان الجنود الذين أرسلوا للقتل والتعذيب في أركان الأرض الأربعة, ولا يؤخذ منهم في الأفلام إلا غربتهم النفسية وشوقهم (للفاميلي), وفي واقع الأمر, لا نخشى على قيمنا العائلية رغم كل صبيب الأفلام على »2: و »4« و »one« التي تتجاذبها على الجانب الآخر القنوات الفقهية, الشقيقة بالتمويل الهائل, الذاهبة إلى عصور التجهيل, بل تستوقفنا قيم أخرى كنا تعلمناها من ينابيع ثقافتنا الدينية والروحية, ومنها الاعتذار, ولمن يشاهد الأفلام الأميركية بطيب نية, عليه أن يتابع مسلسلات الإجرام, وللإجرام في اللاوعي الأمريكي جاذبية لا يضاهيها في الحضور إلا الاستمتاع بالدم المطروش على المرايا والجدران وإسفلت الشوارع, والوجوه المشوهة, والسكاكين المغروزة في القلوب والعيون, وعليه أن يحصي أفلام الرعب التي تحاط بدعاية فريدة كأنها نزهة إلى مناطق الطبيعة الساحرة, أو أعماق النفس البشرية (دخول الأفلام الأميركية إلى عوالم التحليل النفسي مثير للسخرية) والجريمة المتسلسلة لم نعرفها إلا في تلك الأفلام الخارجة من ذاك الواقع, الذي يريد تعميم متعة القتل والدم على كل مشاهدي العالم, بالإضافة إلى تكريس عدم معاقبة القاتل إذا أعلن ندمه واعتذر! والاعتذار على هذه الطريقة أصبح صنماً يعبد, مع استبعاد وطمس مئات العيون التي بكت, ودمار النفوس التي تأذت وكانت ضحية لهذه الجرائم! ويبدو أننا (أمة القيم الإنسانية) التبس علينا هذا السلوك الذي شجعناه بين صديق وصديق حصل بينهما سوء تفاهم, فرحنا نطالب الاستعمار الذي أنهك جسد الأمة بالقتل والاستغلال والتجهيل والتحقير, بكلمة اعتذار, لنسترد اعتبارنا لأنفسنا وتخيلوا أن فرنسا تستطيع محو تاريخها المشين في الجزائر وسورية ولبنان بكلمة اعتذار من قبل سياسييها (ماذا عن مفاعل ديمونة الذي تركته لنافي صحراء النقب كعربون عن حسن النية?) بل تخيلوا الكيان العنصري الصهيوني وهو يعتذر عن مذابحه المتسلسلة, المستمرة من الطنطورة ودير ياسين حتى اليوم, وعن جدار الفصل وبحار الدم التي تفيض آبارها بين آن وآن من فلسطين ومصر ولبنان سورية, هذا إذا غيب النسيان ما فعلته بريطانيا, التي باتت هرمة اليوم, في بلادنا العربية, وعقد الزواج الأبدي بينها وبين الحركة الصهيونية العالمية, عقد بلفور الملتف حول رقابنا منذ أجيال?‏

أبعتذار يغتسل ضمير الجلاد القاتل ويهدأ خاطر الضحية? ترى من فتح هذا الباب على ثقافتنا المعاصرة? أهو اللاوعي الذي تحفره الأفلام الأميركية المرغوبة, أم هو تقليد أمم الحضارات التي يسرها أن نشعر بالدونية وأن نطالب فترفض?‏

اعتذار القاتل غير مقبول (ومنه أسف أولمرت على قتل المدنيين). المقبول فقط أن يكف القاتل عن عنجهيته وفوقيته وأن يرحل عن أرض ليست له, وأن يعترف أن ميزان الكون ليس ضحية صامتة, وجلاداً متوحشاً, كلما شعر أن رياحه تميل إلى القوة انقض على الإنسان الذي يفوقه قيماً ورقياً, فقتله, أو راح يقتل وعيه, بتقديم مجرد اعتذار لفظي لا يعيد شهيداً إلى الحياة, ولا قرية إلى الوجود.. ولا دمعة إلى مآقيها..‏

قاصص الله تلك الفضائيات التي تبث سمومها الهادئة, المخدرة المعمية على قعقعة السلاح الذكي والفكر الشاذ على قيمنا.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية