تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في امتـداح الحضـور الحسـي لكتـــاب..!

ثقافة
الأحد 25-10-2015
كلما قرأت ما كتبه كبار الأدباء عن علاقتهم بالكتاب.. تخيلت ما كان سيؤول إليه حالهم فيما لو وُلِدوا في عصر الأجهزة اللوحية والأقراص المدمجة.. التي كانت ستختصر، إن لم تلغِ، مقداراً لابأس به من شاعريتهم تجاه محبوبهم «الكتاب».

في كتابه «المكتبة في الليل» يصف ألبرتو مانغويل حال الألفة التي نشأت بينه وبين مكتبته: «أعيش وسط رفوف كتب لا تنفك تتنامى، حيث بدأت حدودها تبدو ضبابية، أو أنها تماهت مع البيت نفسه».‏

يلاحق في مؤلّفه هذا سيرورة «المكتبة» عالمياً.. تحوّلات عالم الكتب.. دون أن ينسى إضافة إحساسه المترافق وتوصيف كل مرحلة.‏

فالمكتبة، وفق عمله المثبت توثيقياً، تتماهى والكثير من هالات الوجود المادي الفعلي، فهي سلطة: (الكتب في حد ذاتها كانت لها في أغلب الأحوال سلطة غير شرعية، والمكتبة كصرح كان يُنظر لها، على نحو خرافي، كمعلّم رمزي للسلطة).‏

المكتبة أسطورةً.. مكاناً.. طيفاً.. شكلاً.. ورشة عمل.. عقلاً.. وسيلة بقاء.. خيالاً.. هويةً.. ووطناً.‏

وبين كل هذه الحالات لها أن «تعكس مَن نكون وما كنا عليه».. ولهذا تصير بمثابة «سيرة ذاتية».. وانعكاساً «لنجوم عقل» كلٍّ منا.‏

مكتبة أي منا هي انعكاسٌ لعالمه.. تحتفظ بشبكات «الأفكار المترابطة التي ضمّها اختيار العناوين».. فكل عنوان يرتبط بذكرى.. حادثة.. سبب.. مكان.. وغيرها من الظروف التي تبقى معلّقة بالذاكرة وتغلّف حضور ذاك الكتاب في دنيانا.‏

الكتب وسيلة بقاء ووجود.. توثيق وتثبيت لتاريخ أمم وحضارات تحتضنها كبريات المكتبات الوطنية في مختلف بلدان العالم.. هل يتهدد وجود تلك المكتبات بتنامي نظيراتها في عالم الشبكة العنكبوتية..؟‏

بالطبع سلطة «الورق» تبقى تتأتى من كونه أساساً للتوثيق والأرشفة.. لكن ما خلا ذلك.. وما عدا كون المكتبات، مكاناً يحتضن الباحثين والدارسين الأكاديميين، ألا يتقلّص الاهتمام من قبل القرّاء بالكتاب الملموس..؟‏

فخامة الحضور المادي للكتاب لا تجاريها أي فخامة مصطنعة ترافق الإلكترونيات وتناميها الكاسح.. ومع ذلك تبدو الإمكانية التي تتيحها الكثير من مواقع «النت» ترفاً حقيقياً بالنسبة للقارئ الحقيقي.. إذ تؤمّن له وصول الكتاب إلى ما بين يديه دون كبير عناء.‏

عشرات.. مئات.. وآلاف العناوين الملقاة على قارعة مواقع الشبكة الافتراضية.. تمنحك التجوّل بكل كياسة وحرية لتختار ما ترغب به وما يلفت انتباهك.. دون حظر أو منع.. تجوّل بصري يسهّل إمكانية الوصول إلى كتابك المنشود.. لكن بالوقت نفسه.. تخسر حميمية احتضان أوراق ملموسة تضع عليها ملاحظاتك.. هوامشك الخاصة.. وسيل أفكارٍ تفجّرها في عقلك.. ولعل هذا ما قصده مانغويل حين ذكر أن «كتبنا تعكس من نكون».. لأن فيها بوحاً من نوع خاص.. وشوشة همسات أفكارنا التي لا نبوح بها إلا لصديقنا الكتاب الورقي.‏

طقس القراءة وحتى الكتابة لدى الأدباء يتوّج بحضور قوي للشكل الكلاسيكي للمكتبة.. وكأنهم يحتفلون حقيقةً بها.. فيجعلونها شاهدة على ولادة كبير أفكارهم وكتاباتهم.‏

يقول مانغويل في وصفه جلوسه في غرفة مكتبته: «أجلس غالباً وسط كتبي في الليل، بينما أفضل أن أكتب في الصباح... تشطر مثلثات الضوء التي يشكّلها مصباح القراءة رفوف مكتبتي إلى نصفين. فوق، الصفوف العليا من الكتب تغيب في الظلمة. وتحت يبرز الجزء المفضل للعناوين المضاءة. هذا التقسيم الجزافي الذي يمنح كتباً معينة حضوراً متوقداً ويبعد الأخرى إلى الظلام... يدين بوجوده فقط لما تحتويه ذاكرتي».‏

هكذا نشأت علاقة بصرية مادية ما بين مانغويل وكتبه.. شكّلت جزءاً من ذاكرته.. وغالباً ما ستعطي لمحةً عن صاحبها بطريقة ترتيبها وتوضعها وعناوينها..‏

من أين للالكتروني أن يمنح بعضاً من فخامة اللقاء الذي يطبع حضور «الورقي»..؟‏

lamisali25@yahoo.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية