|
آراء فسارع إلى أقرب بقالية للجهل واحجز رقماً يؤهلك الحصول على شهادة دكتوراه ضمن مزاد خفي وبالظرف المختوم.. فئة من المتثاقفين الذين ملؤوا الساحة الثقافية باختصاصاتها المرئية وغير المرئية، وتحت قبعات الصالونات الحمراء والصفراء وتدرجات الفوشيا التي أصبحت مراكز إعلان وتنصيب الأغلبية الجاهلة في المشهد الثقافي، على عرش العلم دون أدنى جهد فكري أو عقلي ممن لديهم عقدة نقص اسمها (الشهادة الجامعية). إن الحياة العملية لهؤلاء المتطفلين على عذرية الورقة البيضاء مملوءة بعمليات النصب والاحتيال التي جعلتهم يتبوؤون أعلى درجات السلم الاجتماعي والعلمي وهم لايفقهون عن الوضع الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي سوى ما يسمعونه من إخوتهم في الرضاعة، رضاعة فنون الكذب وأساليب النصب، ليبدؤوا رحلة الألف ميل بخمسمئة خطوة دفعة واحدة. يقدمون أنفسهم للمجتمع على أنهم يدرسون في الجامعة مرحلة أولية، وفي كل مرة يغيرون اختصاصهم تبعاً للأشخاص الذي يعرفونهم، فمرة يوهمون الآخرين بدراسة الحقوق وتارة الصحافة أو الطب البشري أو البيطري وأخرى علم الاجتماع أو التربية، عفواً قلة التربية، و... و.. إلخ.. والذين لا يعرفون حقيقتهم يرفعون لهم القبعة. وإذا ناقشت أحدهم بأحد فنون الإبداع ينهال عليك بوابل من الاتهامات التي تخفض من شأن محاوره وتعلي شأن الكتبة غير الموهوبين وغير المؤهلين، لا بالدرجات الجامعية ولا حتى الثانوية مشيراً بذلك إلى أقرانه في المهنة المسكينة الحزينة. بطبيعة الحال لا يمكن تجاهل أهمية المبدعين الحقيقيين الذين لم تسمح لهم الظروف بمتابعة تعليمهم، فالمبدع الحقيقي هو قارئ بامتياز الحرف والكلم الجميل، قارئ أولاً وآخر قبل أن يكون كاتباً بامتياز القلم.. إنما الإشارة هنا إلى الذين اغتصبوا مهنة الكتابة فدخلوا خلسة من شبابيكها الصغيرة، تلك الشبابيك المعدة لمرور الضوء والنسيم العليل للذين يعانون ألم الحرف لكي يولدوا. دخلوها متسولين كسرة ورق على موائد الحبر، متشبهين بالعظماء، بحجة أن الإبداع ليس حكراً على أحد، وإذا كان الأمر على هذه الحال فكيف أصبح بقدرة الجهل حكراً لهؤلاء المترفين بعدم القراءة أو المتابعة الثقافية المستمرة المستنكرين للتعليم عبر بوابات الجامعة ومدرجاتها وقاعاتها المنفتحة الأفق، ليلهثوا في الوقت نفسه وراء شراء الشهادات وعلى أرفع المستويات العلمية، إنها الدكتوراه يا سادة فمن يمنح تلك الدرجات الرفيعة لأصحاب النفوس الوضيعة. ولو فرضنا جهلاً لا جدلاً أنها مجرد تسمية لا تقدم ولاتؤخر إذاً أسماؤنا أيضاً لا تقدم ولا تؤخر، وقد قيل لكل امرئ من اسمه نصيب وكم من الأسماء غيرت وجه التاريخ فهل كانت تلك الزمرة الجاهلة على موعد مع النصيب من اسم الدكتوراه، أم على موعد مع حفلة نصب من الطراز الفاخر. يحملون الشهادات زوراً وبهتاناً ولا يدري أي منهم أنه يحمل أسفار حتفه على كتفه، تسألهم عن الفكر الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي، يهزون رؤوسهم في حركة توحي أنهم على فهم واطلاع باحثين في مؤخرات ذواكرهم عن آخر خبر تناقلته الفضائيات ويتعلق بأحوال الراقصات مع هزة عطر تريحهم من تخمة الفكر. وإن أمعنا النظر في بعض المؤسسات العامة والخاصة لوجدنا أنه قبل أن يتبوأ أحد العاملين فيها منصباً يبدأ بإيهام الآخرين أنه يقدم رسالة عصماء لنيل شهادة ما حتى لو كانت في اللياقة البدنية في الجامعة كذا/ قسم الدراسات العليا وبعد سنة أو سنتين على الأكثر يعلن فجأة نيله شهادة دكتوراه معتبرة من إحدى الجامعات الأجنبية، إما عن طريق إحدى الدول العربية وإما عن طريق شركات تعهد الشهادات. إن الأشخاص الذين امتلكوا شهادة دكتوراه دون أن يقرأ أحدهم كتاباً واحداً ودون أن يخضع لامتحان واحد باتت اعدادهم في تزايد مخيف فلا يخلو محفل منهم بل لا تسلم دائرة رسمية وغير رسمية من جهلهم إذاً ألم يحن الوقت لتعرية هؤلاء أمام الرأي العام وتقديمهم على حقيقتهم. لقد أساء حملة الشهادات المزورة إلى حملة الشهادات الصحيحة حتى اختلط حابلهم بنابلهم. فالشهادة الجامعية وشهادة الدكتوراه تمنح حاملها أسلوب التحليل والقدرة على إجراء المحاكمات العقلية، فهي الخطوة الأولى على طريق الانخراط في هموم ومآسي الشأن العام ليغدو حاملها بعد أن تعجنه السنون وتعركه ويلات الحياة، مثقفاً من طراز الألم والأمل معاً، أما هؤلاء فتراهم يستمتعون بحياتهم المزورة فلا هم ولا غم ولا هم يفقهون.. إن تلك الفئة دفعت واشترت فأثارت حفيظة الذين لا يملكون المال للشراء فباتوا يدعون بدعواهم وما من رقيب فمن سيطلب منهم إبراز دليل على صحة ما يقدمون به أنفسهم سوى ألسنتهم. دكتوراه لكل الاختصاصات والأعمال العامة والخاصة والمخصخصة... دكتوراه عن طريق المزاد العلني أو الخفي، عن طريق مناقصة بالظرف المفتوح أو المختوم... دكتوراه من كل القياسات ولكل المقاسات... دكتوراه من طراز امرأة عمياء لاتبصر.. صماء لاتسمع... خرساء لاتنطق.. فهل من عاشق أو طالب قرب مع وقف التفكير؟ ولسان حالي يقول: أسفي على دهر يضيق بعارف ذرعاً ويبسط فسحة الجهال. |
|