تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار... هـل أنـا حشري إلى هذاالحد ؟!

آراء
الأربعاء 1-7-2009م
ياسين رفاعية

بين لحظة وأخرى تداهمني حالة من الانقلاب الروحي تقودني إلى الشك، حالات مبهمة تجتاح النفس دون سبب ظاهر، وتباغتني في حياتي اليومية ، وغالباً،

لاأجد لها تبريراً منطقياً معقولاً، وغالباً أيضاً أتوقف مبهوراً أمام جمال امرأة، فأخاف أن أعبّر عن ذلك مباشرة، إذا قلت لامرأة شرقية صادفتها في الطريق: ماأجملك ياسيدتي، أسمعتك كلاماً قاسياً، مالم تضربك بحذائها، في الغرب تقول لامرأة جميلة مثل هذا الكلام فتشكرك أنك قدرت جمالها.‏‏

هذه حضارة وتلك تخلف، يقول لي صديق: الشرقي نيته خبيثة دائماً، ومايعلن غير مايضمر.. رأيت ذات مرة في دمشق امرأة تحمل على كتفها طفلاً جميلاً فاقتربت وقبلت يده، فإذا بالمرأة تنتفض وتلاحقني بالشتائم، لانستطيع في الشرق، وخصوصاً في بلادنا أن نعبّر عن عواطفنا البريئة تجاه شيء جميل صادفنا، لكن ذات يوم رأيت امرأة تتقدم نحو مقهى السيتي كافيه في بيروت بصعوبة، لأن المقهى نصعد إليه عبر بضع درجات على الرصيف، كانت المرأة قد ربطت قدمها برباط أبيض وكانت تعرج في خطواتها، خطر لي خاطر طبقته فوراً وتقدمت منها أسألها: هل تحتاجين الى مساعدة ياسيدتي؟ فابتسمت وقالت: إذا سمحت، تقدمت منها وخاصرتها فيما اتكأت هي بيدها على كتفي ثم مشينا ببطء حتى باب المقهى، فشكرتني، ثم ألقت عليّ مثلاً لم أستوعبه إلا بعد أن تركتها قالت: لايحن على العود إلا قشره، فأدركت أن المرأة سورية، شعرت بسعادة فائقة، واستغربت هذا التصرف الحضاري.. هل لأن المرأة تصرفت بهذه العفوية لأنها في بيروت أم ان ثقافتها سمحت لها أن تتصرف مع غريب حاول مساعدتها؟ بالطبع إن الثقافة تهذّب النفس، وتمنح المرء ثقة عالية بنفسه.. بشكل يتقبل الآخر بنية حسنة، حتى ولو كان الآخر من النوع الذي «يلطّش» ازاء امرأة عابرة بنية سيئة.‏‏

كنت ماشياً في شارع الحمراء في بيروت، وكان هناك بناء حديث يشيّد فشغلت الآلات الرصيف، ما يضطر كل عابر أن ينزل إلى الشارع محاولاً الابتعاد قدر الإمكان عن السيارات المسرعة في عرض الشارع، فلمحت امرأة واقفة في محاذاة الرصيف وقد علق كعب حذائها في مشبك لمجرى المياه السائبة من الأمطار، كانت المرأة محرجة للغاية، إذ كانت قد ارتدت فستاناً قصيراً، صار من الصعب عليها الانحناء لتخليص فردة حذائها وكادت تخلعه وتمشي دونه، ودون أي تردد، انحنيت نحو المشبك وأمسكت بساق المرأة ثم خلّصت فردة حذائها من المشبك، بكل بساطة، ودون أي حرج.. التفتت السيدة نحوي شاكرة بامتنان لانقاذها من هذا الموقف الحرج، وكان أحد الأصدقاء قد لمحني عن بعد وكيف أنقذت المرأة المذكورة من هذا الحرج.. اقترب مني يثمن جرأتي، وقال لي خيراً فعلت.. ثم أردف.. أتعرف من هي هذه المرأة..قلت لا، قال: إنها فلانة، الأستاذة في الجامعة الأميركية، فأدركت فوراً، أن الثقافة تستطيع حماية الإنسان من التصرفات التي قد تبدو غير لائقة ولكن لابد منها.‏‏

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، كنت أحضر ندوة أدبية في مسرح المدينة في بيروت، وكان المنتدون أربعة أشخاص من بينهم امرأتان، وأمام كل واحد منهم كأس ماء.. كانت إحدى المشاركات تشرب بين الحين والآخر شيئاً من كأس الماء الخاص بها.‏‏

وعندما جاء دورها في الكلام اكتشفت أنها شربت ماء كأسها كله.. وبين كل جملة وجملة كانت تتوقف عن الكلام لتشرب قليلاً من الماء فتجد الكأس فارغاً.. فتنظر حولها لعل أحداً ينجدها فيملأ كأسها بالماء.. ولكن دون جدوى .. ارتبكت عن المرأة واحترت كيف أساعدها، إلى أن لمحت زجاجة كبيرة من الماء مركونة خلف الطاولة التي جلس عليها المتحاورون، فتركت مكاني على الفور وصعدت إلى المسرح، وبين دهشة الحاضرين والتفاتة المتشاركين في الندوة نحوي مستغربين، اقتربت من زجاجة الماء البلاستيكية وحملتها، وفتحت سدادتها وملأت كأس السيدة المحاضرة، فضجت القاعة بالتصفيق والضحك، وعندما انتهت الندوة وفيما أنا خارج من المسرح أسرعت تلك السيدة نحوي شاكرة لي تصرفي.. ومن الكلمات التي قالتها لي: إن حلقها جف.. ولم تعد تستطع المتابعة، ولولا تصرفك السريع وإنقاذك لي لما استطعت الاستمرار في المناقشات، فقلت لها: الحق على منظمي الندوة، حيث كان عليهم الانتباه إلى ذلك، ترى هل مافعلت كان تصرفاً حضارياً أم إساءة للمنتدين؟ على العكس، كانت تجربة، قالت مديرة المسرح عنها إن هذا الخطأ لن يتكرر، كل محاضر أو شاعر أو مشارك بندوة يحتاج إلى كأس ماء أثناء إلقاء الشعر أو المحاضرة أو المناقشات.‏‏

عندما كنت مقيماً في لندن، صعدت إلى المترو عائداً إلى منزلي بعد انتهاء العمل في الجريدة، وعادة في مثل هذا الوقت من نهاية العمل تكون هناك زحمة شديدة في قطارات المترو، ويحشر الناس أنفسهم حشراً داخل العربات، المهم أنني عثرت على مقعد فجلست عليه، وفي المحطة التالية صعدت امرأة حامل تجر بيديها ولدين صغيرين، لم يتحرك أحد من الركاب لاعطائها مكانه، وتجاهلوا وجودها تماماً، فتصرفت بسرعة وأعطيتها مكاني، ولا. بل ولن أنسى أبداً ملامح الشكر التي ارتسمت على محياها.. وابتسامتها العذبة، مع همس مستمر: شكراً..شكراً.‏‏

وبعد عدة محطات خفّت الزحمة في عربات المترو ما أتيح لي مرة ثانية أن أجلس إلى جانبها.. فسألتني ما إذا كنت اسبانياً فقلت: لا..لا، أنا عربي ياسيدتي.. وكأنها أصيبت بدهشة شديدة ومفاجئة، وراحت تردد: أحقاً أنت عربي.. هل أنت عربي حقاً، فعدت وأكدت لها: نعم .. نعم ياسيدتي إنني عربي.‏‏

وكنت أدرك أن هذه الانكليزية لن تصدق أن يكون العربي حضارياً مثلها، فنحن موصومون بالإرهاب، وقتل الناس، بالسيارات المفخخة، فمثل هذه السيدة، قد لاتعرف ماذا فعل بنا الاستعمار.. ولماذا نحن «ارهابيون» إزاء غزو العراق واحتلال فلسطين وماتفعله اسرائيل بالإنسان الفلسطيني، وما إذا كانت مذبحة غزة دفاعاً عن النفس بالمنظور الغربي؟!‏‏

لأن مسلكاً مثل هذا الذي تصرفت به، قد يخفف من غلواء الغربي ضد العرب والمسلمين.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية