تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الكهـف الضوئي وثقافــة الخــواء..

ثقافة
الجمعة22-1-2016
عقبة زيدان

التعامل مع الشاشة، هو نوع من التخفي، نوع من العيش في الظل. هناك شاشة ولوحة مفاتيح وفأرة وإشارة ضوئية تتحرك مع كل ضغطة زر: هذا هو العالم الذي تحتاجه الآن لتعبر عن وجودك (الحر). من هنا - من هذا الحيز الصغير - تقرر ما سيكون عليه مستقبل البشرية،

من هنا - من هذا المتر المربع - ستصبح كاتباً محترفاً (بنظر نفسك طبعاً)، مثلك مثل أشهر كاتب على قيد الحياة، كلاكما يملك لوحة مفاتيح وشاشة، وكلاكما يكتب ما يريد.‏

سيستوي أمام الشاشة ذلك الذي (يجيز أكل لحم الشياطين والجن)، والآخر الذي (يرصد حركة المجرات على بعد آلاف السنين الضوئية). ليس مهماً إن كان الجالس الخفي وراء الشاشة عالماً في أكاديمية علمية، أو عضواً في حركة مناهضة للعلم. وسيتحول بكبسة زر أي مبتدئ في دورة محو أمية إلى منظر حول القراءة والكتابة.‏‏

لا أحد يشاهدك وأنت تخترع مفرداتك وكذبك وافتراءاتك. لا أحد يحاسبك وأنت تغير نفسك، وتخلع روحك القديمة.‏‏

أحرف.. أحرف.. أحرف.. ولا شيء أكثر.‏‏

كثير من المصابين برهاب الخلاء، يجدون الجحور الضوئية ملاذاً آمناً لهم؛ إذ لا يستطيعون مواجهة العالم المحيط لنقص ما، وآخرون مهووسون بأن يتحولوا إلى ذوات مرئية موجودة، بعد أن كانوا مقصيين عن الرؤية.‏‏

الانقلاب حدث كالآتي: تحالف المحجوب مع فكرة الاختفاء، منحه مناعة أكبر من الوجود على الشاشة. وهنا ينسحق الخيط الفاصل بين الأشخاص.‏‏

يطلق مايكل ديرتوزوس - مدير معهد التكنولوجيا في ماساشوستس - على المشاعر والأفعال الانعكاسية اسم (قوى الكهف) وذلك لأن مشاعر الخوف والحب والجشع والحزن التي نشعر بها اليوم متأصلة في الكهوف التي سكناها منذ آلاف السنين. وعليه، فإنه مع انتقالنا الآن إلى الشبكة العنكبوتية، هل يمكننا أن نخفي هذه المشاعر أثناء عملنا أمام شاشة الكومبيوتر؟‏‏

إن تلك المشاعر - حسب ديرتوزوس -لا تمر بسهولة عبر شبكة المعلومات، وربما لا يمكن مقارنة القوة البدائية للإنسان في الكهف، حينما كان الحيوان الضاري أو العدو الغاشم يهدده هناك، ولكن المشاعر المحمولة عبر هذا الزمن الطويل، ما زالت فاعلة القوة، ويتم تطبيقها واستخدامها بطرق العصر الحديث.‏‏

من الصعب أن نهمل تلك القوى الحيوية والرئيسية لحياتنا، وهي ستمر عبر سوق المعلومات كما تمر عمليات البيع والشراء والعلاقات الاجتماعية الافتراضية الأخرى.‏‏

يمكن استخدام سوق المعلومات في الخير والشر، ولكن كيف سيتم تنحية أو ترويض إنسان الكهوف، وهو الآن يحارب الوحش الكاسر من غرفته؟‏‏

هل سيكون في مقدور الإنسان التعامل مع الوحش الكامن داخله، قبل صد الوحش الخارجي؟‏‏

لنتفاءل قليلاً، ونقول إن عصر المعلومات يركز على مساعدة الناس، وأن التقارب الإلكتروني سيمكن الناس في أرجاء العالم من الخروج من وضعهم الراهن. ولنتفاءل أكثر ونقول إن المعلومات تنتقل من الذين (يملكونها) إلى الذين لا يملكونها، وينبغي ألا يتم هذا التدفق في اتجاه واحد، بل هناك الكثير مما يستطيع تقديمه من (لا يملكون) إلى الذين يملكون، وهذا مشروط ببدء حوار حماسي وخير بين الاثنين.‏‏

تدفق المعلومات الهائل في كل ثانية يحتاج إلى متلق يعي مايتلقى، وإلا سيتحول هذا الكم إلى خطر يهدد وجوده ومستقبله.‏‏

لا تحتاج المعلومات المتنقلة إلى جواز سفر، ولا تمر على نقاط تفتيش، وليس من السهل على الشركات والحكومات أن تنشئ منافذ جمركية لاحتواء نقل المعلومات، وإذا حدث واستطاعت الحكومات فعل ذلك وراقبت البيانات الرقمية، فيمكن مثلاً تشفير الصور الإباحية داخل أصوات أغان ملتزمة، ويمكن فك تشفيرها فيما بعد باستخدام برنامج مناسب.‏‏

إن ثورة المعلومات أوصلت صوت المواطنين إلى حكوماتهم بشكل أفضل، وزادت من العلاقات بين الناس، وأصبح انتشار المعلومات سريعاً جداً، وبلا رقابة، وانفتحت الأسواق، وتواصلت جهات إنسانية مع بعضها لدعم التقارب الإنساني... هذا كله صحيح، ولكن لماذا هذا التوحش المتفاقم في العالم؟ ولماذا لا يستخدم عالمنا هذه الثورة لإنقاذ نفسه من البؤس والعنف والجهل المعرفي، بدلاً من الغرق في ترويج معلومات عتيقة وبالية؟‏‏

مرة أخرى، إنها قوى الكهف التي ما زالت تسيطر على حياتنا، وتدفعنا إلى استبدال الكهف بشاشة ضوئية ومن خلالها نظن أننا نفعل ما نريد، ونحن متمترسون في متر مربع واحد!!‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية