|
ساخرة إن أكثر ما في شخصية خالد من علامات الطرافة والغرابة أنه كان يصادق الأطفال ولا يحب مجالسة الكبار، فكنت تراه، وهو ابن خمس وخمسين سنة، ماشياً بين مجموعة من الأطفال والفتيان الذين تقل أعمارهم عن خمس عشرة سنة، وبما أنه طويل القامة، فقد كان يبدو بين الأطفال مثل الهوائي (الأنتين) الذي يقوي إرسال الراديو والتلفزيون وكنت تراه يحني ظهره نحو الأطفال مثل ثمرة عباد الشمس حينما تنضج ويصبح ثقلها كبيراً فيضطر الغصن الذي يحملها للانحناء، وكان يحدثهم، وهم يبقون منشدين إليه، حتى ينتهي ، فيفقعون ضحكات عالية تلفت أنظار العابرين إلى مكان وقوفهم، ما يعني أن حديثه أضحكهم. وأما العلامة الثانية التي تدل على غرابة شخصية خالد فهي الكذب، وهنا أرى لزاماً علي أن أوضح أن كذبه يختلف كثيراً عن الكذب بمعناه الشائع، فهو يكذب بسبب كون عقله تركيبياً مثل عقول الأطفال الصغار ، وكذبه يختلف عن الكذب المؤذي الذي يسبب فتناً ومشكلات بين الناس، إنه باختصار ، كذب ناجم عن شخصيته الطريفة التي تعاني من مركبات نقص غير مركبات النقص التي تحدث عنها علماء النفس كلهم عبر العصور. وهي ليست مركبات نقص بالمعنى الشائع للكلمة ، فشخصية خالد ليست مهزوزة، فهو يمارس حياته بكل ثقة ، بل إن لديه نظرة استعلاء على الآخرين، واستخفاف بعقولهم التي لا تعجبه على الإطلاق. ذات مرة شوهد خالد يعبر ساحة الخضار الشرقية وقد علق في رقبته شعباً مصنوعاً من شجر التين، وربط به على التوازي مطاطتين حمراوين طويلتين تنتهيان بجلدة عرضانية على هيئة (نقيفة) ، وكان يمشي بطريقة واثق الخطوة يمشي ملكاً، وإذا بمجموعة من المعجبين بشخصيته من الصغار والكبار يتبعونه ويستوقفونه ويسألونه عن وجهته، وعن سر النقيفة التي يعلقها برقبته، قال: - كنت اصطاد بها كان معي خمسون حصاة ، قتلت بها خمسين زرزوراً، بالتمام والكمال، ثم ربطتها بخيط وأوصلتها إلى زوجتي في البيت، وطلبت منها أن تطبخ لنا بلحمها كبة نيئة وأتيت إلى هنا. قال له وائل وهو يغمز الآخرين بعينه ما يدل على أنه غير مصدق لهذه الرواية: - طيب يا خالد، إذا سمحت احك لنا القصة من أولها. قال: بينما أنا ماش والنقيفة في يدي إذ حانت مني نظرة إلى الأعلى فوجدت خمسين زرزوراً وقد اصطفت على شريط الهاتف فأثقلته وجعلته ينحني إلى الأسفل، وضعت حصاة في النقيفة، وسددت على أول زرزور وقذفته بها.. (طن).. فأصيب ووقع على الأرض، سددت على الثاني ، (طن) .. فوقع ، وهكذا خمسون (طناً).. بخمسين زرزوراً ! انفجر الحاضرون بالضحك وقال سمير: - أنت يا خالد تجمع بين صفتين قلما تجتمعان في شخص واحد وهما الكذب والغباء، فالزرازير كما يعرف جميع الناس طيور شديدة الحذر والخوف ، والمفروض بها أن تطير وتهرب من أول (طن).. حكَّ خالد رأسه وقد عرف أن كذبته قد افتضحت، وسرعان ما وجد الحل، فقال: - أنت تقصد الزرازير العادية التي يعرفها جميع الناس .. وأما الزرازير التي اصطدتها أنا فكانت تعاني من ارتفاع أسعار اللقط، أعني المواد الغذائية، وإذا أرادت الزرزورة أن تبني عشاً لتبيض فيه، صار صعباً عليها إيجاد عيدان مكانس نظيفة لم تتعرض لتلوث البيئة، ومن كثرة الحروب التي تشهدها المنطقة، بسبب عدوانية أمريكا واسرائيل، أصبحت الزرازير تخاف على فراخها من أن تأتيها قذيفة أو رصاصة طائشة ، فتذهب في خبر كان، ولذلك يئست من حياتها ، وقررت الانتحار، وحينما جئت أنا ومعي النقيفة والحصى الخمسون سمعتها تتهامس فيما بينها قائلة: - ها قد جاء خالد وهج النار ومعه النقيفة، والشغلة جاءت على رجليها، طاب الموت يا عرب! وكلما قتلت زرزوراً ترى زميله يسارع للوقوف مكانه على شريط الهاتف ويشرع لي رقبته، ويحبس نفسه وينتظر حصاتي التي تنطلق من النقيفة وهي تقول (طن) .. لكي تقتله وتريحه من هذه العيشة! |
|