|
آراء من مثلث الإبداع في جبلة ومن قريته السلاطة خرج البدوي من بيت عبق بالعلم,والفقه,والتصوف,والشعر..إنه منزل والده الشيخ (سليمان الأحمد). عبقرية المكان في جبلة عرفت:سلاطة البدوي,وقصابين أدونيس,وعين شقاقا نديم محمد..ثلاثة إبداعات كبيرة عرفها شعرنا العربي وهي ترتقي لمستوى العالمية:جمالاً,وإفاضة,وإضافة,وغناء,ودوياً,ورقة,وتجديداً في نمط القصيدة العربية وبنائها. يقف بدوي الجبل في القرن العشرين على رأس هرم القصيدة (الكلاسيكية الحديثة)..دوي المطالع,وإطلالة الديباجة الشعرية,وروعة البناء المتني في الجملة الشعرية,واستراحة التخت الموسيقي الشرقي,والانتقالات الناعمة في أغراض القصيدة ومقاطعها عبر الجسر الشعري الحالم الذي بناه (بدوي الجبل),كان جسراً نسيجه الحرير الناعم,ومدماكه فيض عبقرية الشاعر.. في شعر (بدوي الجبل) تجلى المخزون الفلسفي الحكمي,ومساحاته الفكرية عند الشاعر,وفي ثقافته نبض شاعري حمل صفاء الداخل النفسي,وتجربة من خبر الأيام,وقرأ عبر صفحاتها..رحلتنا معه اليوم وفي ذكرى الرحيل هي:مع بعض منظوماته الحكمية الفلسفية الشعرية. يقول (بدوي الجبل): يغدر المجد,والدروب إلى المجد صعاب..ويكثر التزوير علموا أنه عسير فهابوه ولا بدع فالنفيس..عسير.. المنظومة القيمية في فكر وثقافة (بدوي الجبل) كانت تحمل حالة التأمل والبحث (الأنموذج والمثال)..إنه الدأب على طريق المجد,وهو طريق وعر,وصعب..يحتاج الجهد,والعرق,وسهر الليالي لذلك قال المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام جاء البدوي ليقول:المجد هو المعدن النادر والقليل,ودروب الوصول إليه وعرة,وتحتاج الصبر,والتضحية,والمكايدة,والكثير ممن ادعوا حيازته,والوصول إليه كان ادعاؤهم باطلاً وزوراً..البيت الثاني يؤكد الأول..هكذا كل غال ونفيس هو عسير المنال. مقاربة البدوي هنا لقضية (المجد) هي تأكيد على كل ما هو أصيل,وينتمي للخير,ولأصل الرسالة الإنسانية..إنه يطرح معادلة:المجد والتزوير,الحقيقة والزيف,الرخيص والنفيس,الاستسهال والوعورة..إنها معادلة التضادية في الحياة,ومشهديتها,والشاعر هنا ينتصر للجوهري والأصيل. في نص آخر يقول: يلاقي العظيم الضر في كل أمة فلم ينج من حقد الطغاة عظيم ويقذى بنور العبقرية حاسد ويخزى بمجد العبقري لئيم أراد أن يقول:إن كبار الناس هم دائماً في موقع الاستهداف,والقاصرون هم الحاسدون يأخذهم الضيق والغيرة عندما يرون التميز والاستثناء..كل العبقريات في العالم واجهت الظلم,والغربة في محيطها,ومجتمعها,ولاقت العنت,والضيق,والأمثلة قائمة من (ابن رشد) إلى يومنا هذا..وكم من عبقريات دفعت حياتها ثمناً لتميزها..الومضة الفلسفية التي أطلقها (البدوي) حملت معادلة:التميز والقصور,معادلة الاستثناء والعادية,المحبة واللؤم,الضر والتسامح..إنها التضادية,وثنائية المشهد البشري..حقائق إنسانية قائمة ينتصر الشاعر فيها للعظيم..وبالتالي لنسق المجد والعلا,وتعرية زيف الحاسدين. يقول البدوي: والعبقري وإن جلت مواهبه طفل السريرة لا حقد ولا حذر طفل فإن نال ضيم من كرامته ما البحر يزأر..ما البركان ينفجر?! المقاربة الحكمية هنا إن العبقري هو طفل في صفاء السريرة,والبعد عن صغار الأمور,ورؤيته الهادئة الخالية من الحذر والشك فهي إنسانية صافية لكن عندما يتحدى هذا (الأنموذج) بمحاولة النيل من كرامته..فهو التمرد القوي,وهو المدافع عن قيمه,وما يعتقده,ويؤمن به..المعادلة هنا:هي صفاء الداخل النفسي,ومساحة التسامح والنفرانية التي تحملها العبقرية ليس عجزاً..بل هو الوعي المعرفي,والانتماء لفئة الخير مقابل ذلك الشدة واليأس عندما يحاول الآخر النيل من هذه العبقرية..هنا يطرح الشاعر ثنائية التسامح والغضب,إنه غضب الكرامة في وجه من يحاول استباحتها..إنها قيم الدفاع عن المثل العليا وحمايتها. أخيراً يقول (البدوي) في رثاء أبي العلاء المعري في الذكرى الألفية لرحيله عام 1945: الدهر ملك العبقرية وحدها لا ملك جبار ولا سفاح لا تشك في قعر الحياة فربما أغنت إشارتها عن الإفصاح سفر الحياة إذا اكتفيت بمتنه أغناك موجزه عن الشراح أعمى تلفتت العصور فما رأت عند الشموس كنوره اللماح من راح يحمل في جوانحه الضحى هانت عليه أشعة المصباح إنها تداعيات فلسفية جديدة يطرحها الشاعر,فالزمن ملك الإبداع والعطاء,وهو قائم بهؤلاء المبدعين المعطين وبثراء عطائهم,وليس بجبروت القوة,والطغيان,والحياة بما يقدمه إنسانها من خير وسعادة للبشرية,وأثر جميل يبقى مدى الدهر..يتابع:قليل الأيام يغني عن كثيرها,واللمح والإشارات تغني عن التفاصيل..البيت الثالث هو تأكيد للبيت الثاني لكن بصياغات أخرى..في إشارته للمعري هو يشير للنسق وللأنموذج الذي جسدته عبقرية أبي العلاء. البيت الأخير يقرر فيه حقيقة كونية إنسانية هي:إن الرؤية هي رؤية الداخل,والبصيرة,والعقل,وما يحمله من نور المعرفة,وإبصار الحقيقة والجوهر,وليست رؤية العين وما يبدو في الشكل. اكتفي بهذه المعاني الشعرية الفلسفية,وما حملته من دلالات في حقائق الكون,والوجود البشري,وتأكيد على الجوهري,والأصيل في الحياة..لقد انتصر لمنظومات قيم الخير والإبداع. لابد من الإشارة للفنية العالية في بناء هذه النصوص,واستحضاراتها اللفظية,والإيقاع الرائع لجملها وقوافيها..وبالتالي روعة ترتيب النسق الشعري,وانسياب النص,وتوازن إيقاعه,وغيرها الكثير من خصائص بنائية أخرى عرفها شعر البدوي,وميزت المعنى الشعري لديه.. العبقريات التي أشار لها البدوي في أبياته السابقة هي:مساحات إنسانية أوسع من محور العبقرية وحدها..إنها طيوف العبقرية وتداعياتها في الفعل الإنساني ثم تراتبها المعرفي في عقل ووجدان وشاعرية بدوي الجبل,التي أطلت بهذه المقامات الخالدة,وشاعرها الكبير بدوي الجبل..رحم الله بدوي الجبل وله التحية في ذكرى الرحيل. |
|