تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


وثيقة.. ولكن

الثلاثاء 10-4-2012
سعد القاسم

في أواخر ثمانينات القرن الماضي التقط مصور غربي صورة لفتاة أفغانية في معسكر للاجئين في باكستان، كانت الصورة ناجحة بكل المقاييس الاحترافية للتصوير الضوئي، فوجه الفتاة ونظراتها المعبرة

يدفعان المشاهد للتأمل طويلاً، ومن الناحية الفنية كانت عيناها الخضراوان وبشرتها السمراء ووشاحها الخمري، يضفون جمالاً فريداً على الصورة، وخاصة أن المصور المحترف عرف كيف يستثمر إضاءة المكان، وللأسباب السابقة مجتمعة، وغيرها الأهم، كان لا بد للصورة أن تشهد انتشاراً واسعاً، وهذا ما حدث بالفعل فقد نشرتها معظم الصحف والمجلات العالمية بشكل مميز، واتخذتها بعضها غلافاً لها..‏

لكن ما غيرها الأهم؟..‏

الجواب يكمن في الاستثمار الإعلامي - السياسي لهذه الصورة فقد كانت تدين بشكل مباشر أو غير مباشر الحرب الأفغانية التي كان الاتحاد السوفييتي متورطاً فيها حينذاك، وبالتالي فقد استخدمت في سياق التوجه الإعلامي الغربي الساعي لتشويه صورة الاتحاد السوفييتي التقليدية كنصير للشعوب الساعية للتحرر من الاستعمار الأجنبي، وتقديمه على أنه شكل أخر للاستعمار.‏

مضت سنوات، وخرج السوفييت من أفغانستان، وتفكك الاتحاد السوفييتي وتغير نظامه السياسي، وما إن أطل مطلع القرن الجديد حتى شن الأميركيون حرباً مدمرة على أفغانستان، أتبعوها باحتلالها بالكامل، وبعد مضي عشر سنوات على حربهم الدامية التي دمرت كل شيء تقريباً. تذكرت قناة (ناشيونال جغرافي) الرصينة صورة الفتاة الأفغانية فقررت إنتاج برنامج عنها يقوم على فكرة محاولة معرفة ما حل بها بعد ثمانية عشر سنة على التقاط الصورة.‏

رصدت المحطة مبلغاً كبيراً لإنجاز برنامجها الوثائقي المشوق، وأوفدت المصور ذاته إلى أفغانستان في رحلة البحث عن فتاة الصورة، ووفرت له إمكانيات واسعة لا بد منها في بلد محافظ إلى أقصى الحدود، حيث لا يمكن في معظم أرجائه أن تكشف المرأة وجهها أمام غريب، ومع ذلك كانت الكاميرا تتحرك بحرية راصدة دون إعلان صريح عن مظاهر البؤس في هذا البلد المنكوب، متجاهلة بدهاء أي مظهر للاحتلال، وكان لا بد للمتمعن اكتشاف كم من الضغوط مورست على هؤلاء المساكين، وكم من الإغراءات قدمت لهم ليرضوا بتصوير وجوه نسائهم، إلى أن ادعى أحدهم أن صاحبة الصورة هي زوجته، ثم تبين من تحليل الصورة بالتقنيات الحديثة كذب ما ادعى، وأخيراً وبعد سلسلة من الأحداث المصنعة درامياً ينجح البرنامج بالعثور على ضالته وتقف الفتاة التي صارت أماً أنهكتها المآسي أمام الكاميرا لتتحدث عن لجوئها إلى باكستان قبل ثمانية عشر سنة بسبب قصف المقاتلات السوفييتية لقريتها. ثم تحليق هذه المقاتلات فوق قوافل اللاجئين في الجبال الثلجية بحثاً عن أهداف، وترافق حديثها صور قديمة لطائرات مجهولة تحلق فوق جبال غير محددة المكان، وأقدام تغوص في الثلج،،وينتهي حديثها، والبرنامج معه عند طلبها من الولايات المتحدة تقديم مساعدات لبلدها المدمر..‏

بذكاء إعلامي كبير يدفع البرنامج المشاهد باتجاه الماضي كي ينسيه الواقع الراهن، بعكس ما فعله برنامج وثائقي آخر سعى أن يمسح من الأذهان صورة مأساوية أكثر شهرة لطفلة هاربة من القصف الأميركي في حرب فيتنام، عندما وثق لحياتها كطالبة في الولايات المتحدة، وكلاهما تختلفان عن صورة محمد الدرة الذي حوله الإعلام الغربي الصهيوني إلى طفل يهودي قتله الفلسطينيون.‏

www.facebook.com/saad.alkassem

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية