تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مراثي بابل ....تبعث من تحت الرماد

شؤون ثقا فية
الأحد 7/9/2008
ديب علي حسن

على مايبدو أن الوقوف على الاطلال وبكاءها ليس إلا حلقة من مسلسلة طويلة في بكائيات الأدب الذي نشأ في هذه المنطقة وهو أي الوقوف على الأطلال ليس معادلاً فنياً كما حاول الدارسون أن يرسخوا ذلك في أذهاننا ,

بل إنه حقيقي لحضارة المدينة فالشاعر الذي يقف حزيناً على أطلال درست لايتوهم ولايستدعي شيئاً لم يكن , بل إن الماضي العامر الذي كان حيث يبكي ويستبكي حقيقة ويوماً تلوالآخر تتكشف معطيات جديدة تقدمها الدراسات الأدبية في هذا المجال .‏

والانتقال من الوقوف على الأطلال وبكائها في الشعر الجاهلي إلى مرحلة حضارية مزدهرة بألوان الابداع كلها (العرب في الأندلس ) وما نتج عن هذا الوجود من حضارات وإبداع ومن الضياع الحزين والعودة إلى الأطلال من جديد , العودة المرة لأن المبدع كان مشاهداً على الممالك التي تدول وتزول أمام الأعين بسبب صراع الأمراء الصغار فإذا بهم يفقدون الأندلس ومعها كل الابداع , كل العطاء . ... لم تنفع صرخات التخدير التي أطلقها الشعراء وعلى رأسهم أبو البقاء الرندي في رائعته (لكل شيء إذا ماتم نقصان فلايغر بطيب العيش إنسان) واليوم يبكي العرب بغداد كما بكوا من قبلها القدس وبيروت .... يبدو أن الحزن الدفين رفيق ملازم لأدبائنا ولانلمس عمق المعاناة إلا في سلسلة البكائيات.‏

- أحزان مستعادة....?‏

ربما كان يخطر في البال سؤال ! هل في زمن الأحزان علينا أن نبحث عن أحزان أكبر وأشد وطأة مرت علينا لنأخذ منها العظة والعبرة ....ربما يكون الأمر كذلك ? بلا دالرافدين حيث مهد الحضارات الإنسانية نشأ فيها هذا اللون من الأدب أدب رثاء المدن .... الباحث : حكمت بشير الأسود في كتابه الهام والمتميز الصادر عن دار الزمان في دمشق يبحث في هذا الموضوع ويقدم دراسة متميزة وهامة تضيء جوانب من حضارات بلاد الرافدين وما تعرضت له من تدمير وحشي منذ آلاف السنين وكأن التاريخ يكرر نفسه , بابل دمرت ودرست معالمها الحضارية واليوم يقع الحدث نفسه ونذرف الدموع , ومابين موجة الدمع الأولى و إلى, الموجة الحالية محيطات من القهر والعذاب فماذا عن التفاصيل ....?‏

- مراثي المدن ومناحاتها ....‏

يقول الأسود : يحتل رثاء المدن المدمرة مكاناً هاماً في الأدب السوري والأكدي وتعد مناحات المدن واحدة من أقدم نصوص الرثاء التي وصلت إلينا والتي اختصت بحادثة تاريخية محددة ألا وهي دمار تلك المدينة وسقوطها , ولم يكن سقوط المدينة خسارة لتلك المدينة أو العاصمة فحسب , بل تعدى الأمر ذلك لشدة هول الحدث الذي حل بتلك العاصمة أو المدينة وكذلك الواقع الديني لها بوصفها مدينة الإله و وفيها معبده , وهو المكان المختار لإقامته فكلما حرقت مدينة وهدم معبدها , وشرد أهلها , غالباً ما فسر بتخلي الألهة عن أهلها إذ أبيحت مدينتهم بيد أعدائهم ولولا ذلك التخلي لماحدث ماحدث.‏

إن أدب بلاد الرافدين المبكر يعكس حماسة الناس وحذرهم من حوادث الانهيار في الواقع الاجتماعي , فهو يمثل حالة من التذكير بالمآسي التي تحدث الكوارث السياسية من خلال رثاء المدن لقد برز ضمن صنف أدب رثاء بلاد الرافدين أسلوب أدبي سومري مميز ذو محتوى هام وخصوصية ألا وهو رثاء المدن المدمرة ويوجد من هذا الصنف الأدبي ستة نصوص حالياً , وهي تتعلق بمراثي المدن المدمرة للفترة السومرية والبابلية القديمة وهي : مرثية تخريب مدينة أور - مرثية أور وبلاد سومر وأكد- مرثية مدينة نضر - مرثية مدينة الورقاء - مرثية مدينة أريدو- مرثية تخريب مزار لكش.‏

- رثاء مدينة بابل‏

يتوقف الباحث حكمت بشير الأسود عند رثاء بابل بعد أن يقوم مراثي مدن أخرى ويشير إلى أن الشاعر العراقي القديم كابتي إيلاني - كتب ملحمة البطل المحارب (إيرا) التي دونت على خمسة ألواح طينية تحتوي على 750 بيتاً شعرياً وجد منها الان مايقارب 600 بيت كامل , وقد دونت على العديد من الرقم , وماعثر عليه الآن يناهز 26 نسخة أو أكثر وصلت إلينا من مواقع متعددة مثل : آشور ونينوى وسلطان تبة وبابل وأور وتل حداد .‏

وقد كتبت إحدى نسخ الملحمة على شكل حرز يعلق على الصدر أو هيئة تعاويذ تعلق على البيوت من أجل البركة , ومن أجل اتقاء شر مرض الطاعون والاوبئة الأخرى.‏

تعد ملحمة (إيرا) قطعة أدبية شعرية كتبت باللغة البابلية وبأسلوب خطابي بليغ يدور موضوعها حول وصف ويلات الحرب والأمراض والأوبئة التي سلطها (الإله ايرا) على بابل ... تأخذ القصيدة شكل حديث مباشر يتجاذب أطرافه عدد من الشخوص الشاعر والإله إيرا والمستشار ايشوم والإله مردوك إله مدينة بابل , وتنتهي بخاتمة غير معتادة تلقي الضوء على الموقف النفسي لكل من مؤلف الأسطورة والمستمعين الذين وجهت إليهم.‏

من المرثية:‏

- أنت جهزت أسلحة رجال الكيدينو دليل مقت لآنووداكان .‏

- لقد جعلت دماءهم تسيل كما الماء في الساحات العامة .‏

- لقد قطعت شرايينهم ,وتركت النهر يجرف دماءهم .‏

- الإله العظيم مردوك رأى ذلك وصاح (وا ويلتاه) .‏

- آه على بابل التي صنعتها سامية كتاج شجرة النخيل لكن الريح أذبلتها.‏

- آه على بابل التي ملأتها بالبذور ككوز صنوبر ,ولكني لم أتمكن من جعلها تثمر.‏

- آه على بابل التي زرعتها كبستان خصب , ولكنني لم أذق أبداً طعم ثمره .‏

- آه على بابل التي حملتها في يدي كلوح الأقدار , وماكنت لأتركها لأحد .‏

وتنتهي المرثية بأن يتحول (إيرا) عن هدفه فيخير الإله أنه كان قد غضب من آثام الانسان وأنه نوى دماره الشامل وهلاكه إلا ان قلبه تغير وأن بابل سوف تبنى من جديد وسوف تحكم العالم مرة أخرى وقد أصدر أوامره بإعادة تشييدها من جديد !‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية