تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


دريد لحام : وسام الاستحقاق أهم و أثمن تكريم

تجارب شخصية
الاثنين 3/3/2008
فاتن حسن عادله

يعيش في ذاكرة الجميع كباراً وصغاراً وما زال الفنان المتألق منذ ستينيات القرن الماضي, من خلال أعماله التلفزيونية والمسرحية والسينمائية ساهم في نشر اللهجة السورية في أرجاء الوطن العربي ومهد الطريق لدخول الدراما السورية إلى تلك البلدان,

وما زالت عبقريته متألقة لإبداع أعمال جديدة, إنه الفنان الكبير دريد لحام الذي يلقي الضوء على تجربته الشخصية التي تحتاج إلى أكثر من لقاء.‏

يقول الفنان دريد لحام: ولدت في دمشق عام 1934 من أب سوري وأم لبنانية, كان ترتيبي السابع بين إخوتي العشرة, (ست إناث وأربعة ذكور) كنا ننام في غرفة وحيدة تعتبر أكثر بقاع العالم من حيث الكثافة السكانية, فينام الذكور بحذاء أحد أضلاعها والإناث أمام الضلع المقابل, أما سقف الغرفة فكانت مهمته في الشتاء انه يعمل كمصفاة للأمطار تتلقاها أوعية وزعت في أرض الغرفة, كان الفجر بدأ بالظهور عندما أفقت لأرفع رأسي بصعوبة وسط زحام الرؤوس على المخدة, لأجد والدتي ما زالت تجلس وراء آلة الخياطة تخيط أثواباً لصالح أحد تجار الملابس تنال سبعة قروش ونصف القرش عن كل ثوب تساعد بها والدي الذي كان دكانه الصغير في زاوية مهملة من زوايا حي الأمين الذي ليس له شبيه في هذا العصر, ولم يكن يكف ليطعم اثني عشر فماً.‏

كنت يومها في السابعة واضطررت للعمل في وقت مبكر, فعملت بعدة مهن : حداداً وخياطاً ومكوجياً وبائعاً جوالاً... الخ, وذلك ما أغنى تجربتي في الحياة وعلمني أن الكفاح هو أول خطوة في طريق النجاح.‏

كنت في العاشرة عندما قررت أن أساعد بمصروف العائلة الكبيرة فذهبت إلى جارنا الحداد أبو كعود الذي رفض تشغيلي بداية لأنه لم يكن بحاجة لذلك, ولكنه تراجع عن رفضه عندما رآني حزينا وقبل أن أتابع مسيري قال لي: (بتعرف تنفخ بالكور ) فأجبته: بتعلم, وهكذا وقفت على أطراف أصابعي لأطول الكور أنفخ فيه ساعتين متواصلتين بشكل رتيب يمينا ويسارا, تغمرني سعادة لا توصف, أعطاني وقتها خمسة قروش, حقيقة لم تسعن الدنيا من الفرح, ركضت إلى البيت أزهو بها ظنا مني أنها ستساعد بمصروف العائلة وقد تخفف من سهر والدتي وراء (مكنة) الخياطة حتى مطلع الفجر لكنها عندما فتحت الباب لي ورأتني ألوح لها بالفرنك, ابتسمت ابتسامة رضا ساحرة حين بدوت لها كصورة سالبة ولكن.. لقد ذهب الفرنك ثمنا للصابون ليعيدني إلى لوني الأصلي.‏

مع تباشير الشتاء, كان أبي يغلق دكانه ثلاثة أيام ويشد رحاله على بغل يستأجره, ميمماً شطر مشغرة في البقاع الغربي, بلد والدتي, ساريا عبر السهول الموحشة والجبال الصعبة, يوما وليلة ذهابا ودون توقف, ومثلها للإياب ليأتي بحمل فحم يضيفه إلى بضائع دكانه المتواضعة, شعر أنني أصبحت بعمر يمكنه من الاعتماد علي وعلى أخي جواد الذي يكبرني بعامين, لتبقى الدكان مفتوحة بغيابه.‏

بلغت غلتنا مئة وعشرون قرشا ولأننا نريد أن نلعب اشترينا بالغلة (كريجة) كما الكثير من أولاد حينا, ولم تكتمل فرحتنا بها عندما عاد وغضب, لقد أضعنا رزقة العائلة, حطم اللعبة, لحق بنا لننال العقاب لكننا كنا أسرع منه بالهرب في أزقة الحي فلم يستطع اللحاق بنا, لقد كان متعبا وكنت وقتها قد بلغت الثامنة عشرة.‏

تخرجت من مدرسة حي الأمين الخيرية المحسنية وكنت أول من نال شهادة البروفيه بين إخوتي مع أنني كنت الأصغر بين الذكور, فالآخرون كانوا يعملون ويحاولون التحصيل الدراسي مع العمل, لكن من الصعب تأمين ثمن الكتب ومتطلبات دراسة البكالوريا لذلك كان عليّ أن أنصرف للعمل كالآخرين.‏

أخي, أختي هذه أسماء أشقائي التسعة لم تكن والدتي تسمح المناداة بغيرها كي تضمن قوة الاستمرار للعائلة من خلال التماسك بعاطفة الأخوة.‏

لقد اجتمعت العائلة وقررت التضحية من أجلي, فالكل يعمل ليتابع دريد تعليمه, نلت البكالوريا وفزت بمنحة دراسية في الجامعة لحساب دار المعلمين العليا مع راتب قدره مئة وسبع وثلاثين ليرة ونصف الليرة, وبأول راتب تقاضيته عام 1953 في الجامعة أهديت أمي طباخا له فتيلة يعمل على زيت الكاز بدل بابور الكاز أبو نكاشة. متزوج ولي ثلاثة أبناء‏

القرار الأهم‏

عندما قررت أن أترك مهنتي كمدرس لمادة الكيمياء في الجامعة والمدارس الثانوية وأتفرغ نهائيا للفن لاقى هذا القرار اعتراضا كبيرا من العائلة, وخاصة أنه لم يكن له في ذلك الوقت آفاقا منظورة وذلك عام .1960‏

وشعرت في قرارة نفسي أنني أمشي في سرداب أرى أوله ولكني لا أرى آخره ومع ذلك قررت المتابعة والسير في هذه الخطوة, أيضا من جملة الاعتراضات أنني موظف في وظيفة جيدة ومحترمة وهي المدرس الذي كانت تعتبر وظيفته أماناً وطمأنينة للشخص في ذلك الوقت, ليس كما هي الآن باعتبار أن الراتب كان يكفي تكاليف الحياة ويوفر حياة جيدة, فالموظف هو الوحيد الذي كان يقال له الأفندي لأنه كان يلبس (كرافة وحذاء ممسوحا بالبوية) ورغم ذلك كما ذكرت قررت أن أترك مهنتي واحترف الفن.‏

أصعب موقف‏

وهو ما لا يمكن أن أنساه أبدا يوم انتقلت والدتي لجوار رب العالمين, فأنا أشعر أن الأم وطن والوطن لا يموت وكنت أشعر أن الأم يجب ألا تموت ولكن هذا هو قدر كل إنسان فالأم هي وطن كل إنسان على وجه الأرض باعتباره يبتدىء برحمها ويعيش تسعة أشهر بأمان وحنان وعندما يخرج إلى الدنيا فإنه يبكي وكأنه يرفض الخروج بل البقاء في ذلك الوطن, فالأم أو أمي على الأقل هي قدر مهم لعائلتها وأولادها فهي المربية الأولى وكذلك أي أم.‏

حقيقة لم أكن أصدق حتى الآن أن الأم تموت فأنا كل أسبوع أذهب لزيارة قبرها وأتكلم إليها وأبكي وأشعر أنها تسمعني فأطلب رضاها لأنه الأهم.‏

التكريم والمسؤولية‏

أهم وأثمن تكريم حصلت عليه هو وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة الذي قلده لي الرئيس الدكتور بشار حافظ الأسد, هذا القائد الذي لا ينام لكي نغفو بطمأنينة وأمان, في الحقيقة شعرت أنه بالإضافة لكونه تكريماً, هو مسؤولية كبيرة يجب علينا أن نقدم أعمالاً توازي شرف ذلك لكن مهما حاولت لا يمكن ولن نستطيع أن نقدمها لكن نحاول الاقتراب كثيرا من هذا الأمر.‏

البداية وقرار الاحتراف‏

عام 1960 عندما افتتح التلفزيون السوري كان الدكتور صباح قباني شقيق الشاعر الكبير نزار قباني مديرا للتلفزيون وكان يرصد الحركة الفنية في الجامعة وكنت حينها من نشطاء الحركة الفنية أثناء دراستي فعرض عليّ أن أقدم شيئا ما على شاشة التلفزيون وفعلا أغرتني هذه التجربة وعلى أثرها أخذت قرار الاحتراف, تدرجت بعدها بالأعمال التلفزيونية فبدأت بعمل فاشل كان اسمه (الإجازة السعيدة) والذي جمعني مع كل من الأستاذ المرحوم (نهاد قلعي- محمود جبر- غازي الخالدي وتاج باتوك التي هاجرت واغتربت) حيث قدمنا أربع أو خمس حلقات منه ولكنه لم يعجب الناس, حاولنا بعدها أن نتحول إلى برنامج آخر فقدمنا عملاً اسمه (سهرة دمشق) وبسبب نجاحه كان يعرض على شاشة تلفزيون الإقليم الشمالي دمشق وشاشة الإقليم الجنوبي القاهرة.‏

هذان العملان كانا من إخراج خلدون المالح الذي بدأت مسيرتي معه وما زلت حتى الآن فكانت مسيرة ناجحة كما أخرج لي الكثير من الأعمال.‏

مسرحياً‏

بدأن بشكل جدي عام 1969 بعمل اسمه مسرح الشوك للأستاذ عمر حجو حاولنا أن نجيب فيه على سؤال وهو: لماذا حصلت هزيمة 1967 وكان مسرحا جريئا للغاية وأحدث ضجة حينها ومنذ ذلك الوقت بدأت بأعمال مسرحية ملتزمة.‏

حاولنا أن يكون للفن موقف مما يجري إذ لا يجوز أن يكون الفن للفن فقط والمتعة للمتعة بل يجب أن تحمل في طياتها أجوبة على أسئلة, لذلك بقيت أعمالنا المسرحية سواء التي كانت مع الأستاذ محمد الماغوط لاحقا أو منفردا قدمنا خلالها مجموعة أعمال ملتزمة تتحدث عن الإنسان والوطن والحرية والغربة, وهي ضيعة تشرين- كاسك يا وطن- شقائق النعمان- صانع المطر- العصفورة السعيدة وهي مسرحية للأطفال.‏

أما في السينما فقدمت عام 1961 (سكتش) على المسرح بمناسبة مرور سنة على تأسيس التلفزيون كان اسمه (عقد اللؤلؤ) وهو قصة فيها بعض الخرافة, هذا العمل أعجب الأستاذ نادر الأتاسي وهو رجل أعمال ومنتج سينمائي بنفس الوقت فاتفقنا على تحويله إلى فيلم سينمائي وفعلا حصل ذلك عام 1963 وكان أول فيلم نشارك فيه أنا والأستاذ نهاد قلعي والشحرورة صباح والمرحوم فهد بلان وهكذا كرت السبحة وقدمنا مجموعة كبيرة من الأفلام وأكثرها بالتعاون مع الشقيقة مصر وصولا بعد ذلك لنقلة أخرى بالنسبة إليّ حيث بدأت أخرج أفلامي الأخيرة وكلها كانت تحمل رأياً أو مضموناً ما تجاه قضية فقدمت فيلم (الحدود) الذي كتبته مع الأستاذ محمد الماغوط (التقرير) ثم (كفرون) الذي كتبته مع الدكتور رفيق الصبان وأخيرا (الآباء الصغار) الذي كتبته منفردا وافتخر به كثيرا.‏

تجربتي مع الفنانين‏

لقد علمتني شيئا مهما وهو أن الفن ليس موهبة فقط, ولا تكفي لأن يكون الفنان ناجحا بل يجب أن يكون هناك ثالوث يتمتع به وهو الموهبة والأخلاق والثقافة, وأضع الأخلاق أولا لأنه من دونها أو من دون الثقافة لن تكون فنانا ناجحا مهما كانت موهبتك عالية المستوى.‏

ومع اليونيسيف‏

تجربتي مع اليونيسيف كانت طيبة جدا بالنسبة لي أي كنت سعيدا جدا لأنني أخدم في ميادين الطفولة, بداية كنت سفيرا لها في سورية ونتيجة لنجاحي بمهمتي منحوني لقب سفير لهم إضافة لبلدي في (الشرق الأوسط) وشمال إفريقيا أيضا وكان لي نشاط لافت على امتداد الجغرافيا فيما يهم مسألة تلقيح الأطفال التي عادة ما تقع على عاتق الأهل والحكومة وأهمها شلل الأطفال, شاركت بنشاطات كبيرة وفي أكثر الدول العربية, منها المغرب, مصر, السودان..الخ, ولكن فيما بعد حصل خلاف مع منظمة اليونيسيف بسبب موقفي من المقاومة ولهذا تركت هذه التسمية ومع هذا فإنني ما زلت أعشق الخدمة في مجال الطفولة ولن أقصر أبدا إذا ما طلب مني بل سأندفع بكل حب ورغبة.‏

أخيراً:‏

شكرا لاهتمامكم حيث تبقى الصحافة والاعلام هي التي تمد جسور المحبة بيننا وبين الناس وبالتالي فإن النقد يعني العين الأخرى التي أستطيع أن أرى بها لذلك أحترم النقد حتى لو اختلف الآخر معي فهذا يعني أنه يراني وأنني موجود.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية