تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حي المهاجرين.. قصة عطاء

الاحتفالية
الاثنين 3/3/2008
عمار النعمة

في مدينة الشباب والرياضة القى أنس تللو محاضرة بعنوان: قصة حي المهاجرين وآخر والٍ عثماني وفي هذه المحاضرة يقف عند محطات هامة في تاريخ مدينة دمشق يقول تللو:

في إحدى الليالي عام تسعة وعشرين وتسعمائة وألف/1929/, كان يسير في حي المهاجرين بدمشق رجل مسن, وقد كان مرأى-شارع المهاجرين سكة- يؤجج في نفسه نار ذكريات قديمة تجاوز عمرها الأربعين سنة..‏

كان كلما تعب وقف ليستريح أمام عتبة أحد البيوت, وكأن له مع كل بناء من هذه الأبنية وكل حجر من هذه الأحجار قصة مؤثرة وحكاية مؤلمة, إلى أن وصل إلى بناء كبير شاهق وقف عنده يتأمله ويتمعن فيه, ويرمقه بنظرات حزينة تصاحبها زفرات عميقة وعبرات متدفقة...‏

هذا البناء الشاهق الذي انتصب وسط الجنائن الواسعة, كان مقر رئاسة الجمهورية الفرنسية التي احتلت سورية, وقد كان يوما ما قصر الوالي العثماني..‏

وبينما هو كذلك إذا بالحارس الفرنسي يسأله:( ماذا تفعل هنا أيها المتشرد?), فلم يعرف بما يجيب, وعاد العجوز أدراجه يسير في الشارع الطويل, فوصل الى زقاق ضيق, ورأى بيتا له باب خشبي قديم مهترىء من بعض أطرافه, وقرع الباب قرعة ضعيفة, فجاءه صوت امرأة من بعيد يخرّ خريرا عميقا يسأل من الطارق, ولما فتحت الباب, قال بصوت متهدج وبلغة تركية:(هل محمد أفندي موجود), فسألت المرأة بتعجب واستنكار:(من هذا الذي يسأل عن محمد أفندي, ومحمد أفندي قد مات منذ خمس عشرة سنة?), فقال الشيخ بلوعة وأسى:( واحسرتاه, رحمة الله عليك يا محمد أفندي,), فتدغدغ خيال المرأة العجوز بهذا الصوت, وشعرت بقلبها كأنه يهبط بقوة, فأمعنت النظر بهذا الشيخ العجوز وقالت له: بالله عليك قل لي من أنت?!, اقترب حتى أراك بوضوح, ورفعت مصباح الكاز الى وجهه, فأجفلت وارتجفت ورجعت الى الوراء, واختلط عليها الأمر وتلعثمت وقالت: غير معقول, أنت.. فقال لها الشيخ العجوز: هل عرفتني يا أم أحمد...‏

قالت :آه كيف لا أعرفك يا سيدي... ولكن لا أنا واهمة إن هذا مستحيل, قل لي حالا من أنت ?... وتراجعت الى الخلف وكأنها تريد إغلاق الباب بعد أن ظهر عليها الخوف والفزع..‏

فقال لها: لا تخافي يا أم أحمد, نعم أنا(ناظم) الذي كان اسمه يوما ناظم باشا, لقد حننت الى المدينة التي أحببتها والحي الذي عشقته فيها, والذي أمضيت معظم حياتي به, فعدت إليه أزوره, فازداد ارتباك تلك السيدة, وقالت: (سيدي أنا لا أستطيع أن أقدم لك شيئا اليوم إنني إمرأة عجوز بائسة... (فقال لها: لا تكملي.. لقد جئت فقط لأزور محمد أفندي الذي كان مساعدا لي وقريبا الى قلبي ولأطمئن عليه, لكن الله لم يشأ لي أن ألتقي به...‏

مسح الوالي السابق دموعه وخرج من الزقاق الضيق, وهو يتألم لوعة وحسرة, وينظر الى دمشق التي عاد إليها يناديها فرآها غريبة عنه, عرفته أبنية دمشق ولم يعرفه سكانها, لقد ذهب جيل من الناس كان يعرف الوالي حق المعرفة, وجاء جيل جديد ينكره أشد الإنكار...‏

بعد أن خرج الوالي السابق من الزقاق, جلس على عتبة أحد البيوت ليستريح قليلا, فمرَّ ولد صغير , فسأله:(ما اسم هذا الشارع يا ولد), فقال الولد:(أو ما تقرأ أيها العجوز اللوحة التي فوق رأسك), رفع الوالي السابق رأسه فرأى لوحة على الجدار كتب عليها:(شارع ناظم باشا).‏

نهض بصعوبة بالغة ومشى متثاقلا في المكان الذي يحتوي اليوم على حديقة النيربين في ساحة خورشيد, ثم نزل ببطء إلى أن وصل الى حافة نهر بردى حتى وصل الى الوادي الكبير الذي يسمى(كيوان), ومشى في الشارع الذي يؤدي الى الربوة(شارع بيروت أو شارع شكري القوتلي) ثم تغلغل بين أشجار الزيتون والمشمش التي على يسار الشارع والتي ما زالت اليوم في واد يسمى(وادي عتمة) ذلك الوادي المحاذي لزقاق الصخر, وهو اليوم مقابل لحديقة تشرين, وغاب عن الأنظار, حيث لم يره أو يسمع عنه أحد...‏

لقد خرج من دمشق منكسرا, فقد أنكره الناس الذين أحبهم وأحبوه, لقد انكروه من حيث يدرون أو من حيث لا يعلمون, ولعلهم في ذلك معذورون, فقد كانوا تحت الاحتلال الفرنسي , وربما كان السبب في أنه هو الذي لم يعلن عن نفسه, وأن كبرياءه كانت تمنعه من أن يعرف بنفسه.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية