|
ثقافة أما الدراسة والاستعداد للبكالوريا مستفيدين من هذه البيئة فليس أكثر من كلام إنشاء.. بصراحة لم أدرس..قرأت لكن بغير كتب الدراسة، أعدت قراءة مقالات مترجمة مطولة من أعداد من الثورة التي كنت وزعتها، واستعرتها بالرجاء.. وأحياناً كان يُرفض طلبي. هواجس وأمنيات وأنا أجاور النافذة في عربة «باص» وقد تجاوزت بانياس.. البحر من اليمين يكتب رسالة من زبد للريح المليئة برذاذ المطر.. تجاوزت هموم البكالوريا إلى ما بعدها.. تذكرت مقطعاً من القصة التي نقرؤها ضمن منهاج مادة الانكليزي واسمها «القلعة» للدكتور أ. ج. كرونين.. ويبدو لي من خلال تذكر تلك الرواية المشوقة أنه كان طبيباً. بطل روايته يحمل شهادة الطب ويتجه عبر الأرياف إلى البلدة التي عُيِّن فيها وهو في حالة توجس من المستقبل.. ويروي أنه عندما رأى عمالاً تحت المطر يرفعون فؤوسهم ويضربون بها الأرض... أحس بانتعاش الحياة وامتلأ سعادة وجرأة. كان البحر مرة أخرى يستصغرني مؤكداً خلوده.. تذكرت شواطئ جبلة الصخرية.. وعانقني انطباع «أندرو مانسون» بطل القصة وحسدته أن في جيبه شهادة طب في حين يتهددني الفشل في البكالوريا.. بل أحببت لو أتجه إلى الطب.. في الرواية أن أندريه مانسون اشترى جريدة في طريقه إلى بلدته.. كان ذلك أمراً آخر أحسده عليه.. وغمرني شوق أن استمع الآن إلى أخبار «الثورة» تروى في بيتنا متقطعة دون تعمد.. وكان لا بد أن أشتري جريدة. عبرنا حمص بسرعة.. لم يكن من استراحة.. الباصات كانت تستريح في «النبك».. أريد جريدة مثل «اندرو مانسون» ولا مانع أن أكون طبيباًَ... لكن.. أفضل الهندسة. توقفنا في بلدة «قارة» لعطل فني، أسرعت إلى دكان، سألته من أين أشتري جريدة الثورة.. قال لي وكان خمسينياً بثياب عربية يشعر وجهه بحب الضحك: لدينا الثورة.. أما جريدة.. لا يوجد. لم يمنعني غضبي من الضحك وسألته: لماذا لا تريدون جريدة؟! لبس وجهه ثوب الجدية وقال لي: يا ابني.. ألا تريد أن يكون هناك من يعرف أن يقرأ أولاً؟.. ثم ضحك. قلت: حسن سأشتريها من النبك. قال ساخراً: هناك؟! توقفنا في النبك.. بحثت.. لا ثورة ولا جريدة.. اكتفيت بسندويشة بيض مع لبن مصفى أحزنني كثيراً أن أنتهي من قضمها. في بيتنا في دمشق الجديدة.. أول ما فتحت الباب أطل عليّ ورقها الأصفر.. مرمية على الأرض.. والعدد ليس قديماً.. رفعتها عن الأرض.. وعلى الواقف تصفحتها لم أكن قد أغلقت الباب أو أدخلت حقيبتي والسلة المليئة بطعام من القرية.. وعندما تذكرت.. قررت أن تنتظرني الجريدة حتى المساء، ولاسيما أن «بوز أندرو مانسون» في الحافلة قد فاتني، ولجأت إلى السلة وأخذت كبة واحدة بسلق.. وفجلة.. «أحسن من الجريدة». استغرب أخي في المساء عندما سألته عن أسماء محددة في الجريدة.. وعوضاً عن أن يجيبني سألني: < كيف كانت دراستك؟! - منيحة.. وأنت؟! كان في السنة الأخيرة في كلية التجارة بجامعة دمشق وكان ماهراً بحق.. ومتألقاً.. وكنت أحسده.. كان يعيش شبابه كما يريد.. وقد أفدت منه كثيراً في أن أتابع شؤوناً ثقافية وإعلامية لافتة.. علماً أنه كان يعمل في الشؤون المالية وقد طالت إقامته في «الثورة» قبل أن يتجه إلى أعمال التأمين وإعادة التأمين. استهجن كثيراً أن أسأله أنا عن دراسته.. وغالباً اتصفت ردود فعله على حماقات لنا باللطافة، بما يتناسب مع اسمه «عبد اللطيف». عندما أعددت له كأساً من الشاي كافأني بالقول: < أما زلت تريد نشر اسمك في الجريدة؟! - كيف يعني؟! < أن تكون صحفياً. تأكدت من سخريته مني وقلت: - نعم < كما أوصيتك احرص أن ينشر بنتائج البكالوريا أولاً. البكالوريا.. البكالوريا.. وبعدين.. كم أرقتني هذه «البعدين».. البكالوريا وما بعدها أول معركة حقيقية في حياتي تدميني بجد.. كتب الدراسة كانت تشهيني بقراءة أي شيء إلا هي.. وقد أفادني ذلك بقراءة كتب وروايات ودواوين «شعر» ومجلات بينها مجلة «شعر» التي كان يواظب أخي على شرائها وأيضاً أنشأت علاقة أقيّمها الآن أنها علاقة حب حقيقي بيني وبين الثورة.عندما قصدت في صباح دمشقي من بداية صيف مدرسة «اللاييك» أو المعهد العربي الفرنسي في أول شارع بغداد لأتقدم إلى امتحانات البكالوريا.. أخذت معي عدد الثورة.. على باب القاعة قال لي رئيسها: < الجريدة ممنوعة يا ابني. أخذتها على سبيل المزاح وسألته: - جريدة الثورة ممنوعة. < أي جريدة ممنوعة.. ضعها هنا. كان عبد الحميد قد أخذ مكانه في المقعد الأول.. قال لرئيس القاعة ضاحكاً: < أستاذ «دير بالك بتفسد أخلاقك» هذه الجريدة. ورد فيصل من مقعد مجاور: < أسعد عبود يحملها معه تيمناً. طلب رئيس القاعة الهدوء والتزام الصمت وعبس قليلاً وقال: - التيمن يكون بالمصحف.. وتابع مستغرباً: افتكرت نفسي جريئاً!. كان الرجل جريئاً بالفعل.. فقد تحمل على مسؤوليته إدخال طالب إلى قاعة الامتحان كان تأخر عشر دقائق بسبب نسيانه بطاقة الامتحان وعودته ليحضرها.. كما أنه عندما قدمنا الفيزياء وكان هو أستاذ فيزياء.. وبدأ العرق والأرق لنجيب على الطلب الأول من المسألة: أحسب شدة التيار. شرح لنا أن نفترض شدة التيار لمن لم يعرف أن يستخرجها ونجيب على باقي الأسئلة.. يعني أن حالة العصلجة عنته تماماً. عندما خرجنا من قاعة الامتحان ومعي الجريدة.. قال لي فيصل: لقد خاف رئيس القاعة من «الأزفستيا تبعك» أن تنقد وضوءه.... أخبرته بأنه قال: كنت أعتبر نفسي جريئاً. قال لي: هذا أخوان.. اليوم.. البعثي فقط جريء.. لم تكن الثورة على هوى بي كما أنا على هوى بها.. صحيح أنها نشرت اسمي لأول مرة بين الناجحين في الفرع العلمي ثانوية ابن خلدون.. لكن.. (136) درجة والتربية الدينية ضمناً. أتراها عطّلت إمكانية دخولي الهندسة كي تنفرد بي فيما بعد. a-abboud@scs-net.org |
|