|
ملحق ثقافي الموت قريب منه، يَبْرمُ حوله، يتحسس رقبتَه قبـل أن يضغط عليها الضغطةَ الأخيرة، لكنه غير خائف! كأنَّ الموتَ شيءٌ تافه.. كأنه مشوار إلى السوق سيعود منه بعد قليل!
من حوله جلستْ بناتُه على الكراسي وأصهاره الثلاثة، وأحفاده. زوجته ظلـتْ واقفةً تَعْصُرُ يديها ولا تعرف ماذا تعمل! كان الجميع صامتين، قـلوبهم في عيونهم، لكنه كان يطمئنهم بابتسامته الهادئة، وعينيه الزرقاوين الصغيرتين المشعَّتين بالمرح والأمان رغم اصفرار وجهه، وتقلُّصِ خديه! نظر نحو زوجته «أم دلال» كأنه يريد منها شيئاً، فانحنتْ فوقه قائلة: - نَعَمْ.. أبو دلال؟ - بصراحة لي طلب صغير، ولكنْ أخاف أن ترفضي. - أرفض؟! اطلبْ روحي. سأرميها حالاً بين يديك. - ثوب النوم الزهري الذي أحبه. البسيه الآن يا أم دلال مع قلم حمرة على شفتيك الحلوتين. تراجعت المرأة إلى الوراء، كأن الدهشة شدَّتها من شعرها! زوجها هذا غريب الطبـاع تجاوز السبعين ولم يتغير! إنه يأخذ الأمورَ مهما صعبتْ ومهما تعقدتْ مأخذ البساطة كأنها خيارة مقشرة يقطعها بأسنانه.. مثلاً لم يرزقه الله بخلفة الصبيان، فلم يعترض، ولم يغضب، كأن البنات والصبيان عنده شيء واحد! نام مرة في مطار دمشق وهو ينتظر موعد الطائرة التي ستحمله إلى السعودية، وعند استيقاظه قالوا له متعجبين: - هوهووه.. ! لقد طارتْ منذ ساعة. أين كنت؟! فضحك، وقال: - بسيطة. أعود بعد يومين، وأركب في الطائرة الثانية. زوجها عبد الله - سبحان الخالق - أبو العجائب والغرائب، لكنَّ طلبه هذا أعجب من كل عجائبه القديمة! نظرتْ أم دلال فيمن حولها، فازدادت دهشتها، كان الجميع يأمرونها بعيونهم أن تلبي طلب الرجل المريض! واضح أنهم سمعوا كلماته، فهو يقول كلَّ شيء بصوت مسموع، ولا يرتبك من شيء! لا تعرف أم دلال كيف لبست الثوب الزهري؟ هل ساعدتها بناتها في ذلك؟ لا تعرف أيضاً كيف مرَّتْ بقلم الحمرة على شفتيها؟ كلُّ ما تعرفه أنها عادت إلى غرفة زوجها مرتبكةً جداً، كأنها نسيتْ المشي! فالثوب قصير الأكمام، مكشوف قليلاً عند الصدر: «لا حول ولا قـوة إلا بالله.. لا حول ولا قـوة إلا به!» جاءها صوته واضحاً هادئاً كالعادة: - أهلاً بالسمرا أم دلال. تعالي اجلسي بجانبي. عندما جلستْ بجانبه على السرير ازدادت ابتسامته اتساعاً، توهجتْ عيناه أكثر، بدا كأنه يرجع إلى الشباب! رفع جسمه من حالة الاضطجاع، وحاول أن يطوقها بذراعه، لكنه انفلتَ فجأة إلى الوراء، وهَمَدَ كلُّ شيء فيه إلا طيفاً من ابتسامته الحلوة ظل واضحاً على مساحة وجهه! |
|