|
ملحق ثقافي وتمتمت بصوتٍ مخنوقٍ: يا ابنتي... سأموت. توقّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّفت زينةّ ذاهلةً وقد تخشّبت ساقاها، حدجتها بنظراتٍ أميل إلى الشفقة، ثمّ تصنّعت البلاهة وهمست: عفواً!!، فضحت العجوزَ صدمتُها، أرخت تعابيرها المشدودة ودفعتها للتريّث، تراجعت خطوتين كمن يحاول الاستيعاب، وقبل أن يذوي التماع عينيها تشجّعت ونطقت: أرجوكِ... نادني «أمّي» واعـ...، سارعت زينة تقاطعها بعد أن أفقدتها الكلمة ما تبقّى من تركيزها: ماذا تريدين مني؟،
إلاّ أنها لم تلقَ جواباً، بدا لها أنََّ شيئاً ما يتكسّر على فم المرأة المغلق، تمنّتها أن تغادر، أو أن تغضب لتزحزح سكوتها الثقيل على أقلّ تقدير، ولكنها ظلّت مكانها تلوك غصّتها وتنتظر، بينما بقي الصمت هو الصمت. أصبحت التفاتات المارّة فضوليةًًًً أكثر، فوقوفهما المفاجئ في طريقٍ مزدحمٍ وثباتهما الصَنَميّ وقتاً لابأس به كان غريباً، مدّ أحد الزبائن المنتظرين في محلّ الفروج رأسه معلقاً: هل من مشكلة يا زينة؟، ارتعدت أوصالها وقد أيقظها تدخّل زوجها من سكرتها، ردّت كعادتها لحظة تخفي ذنباً: لا لا.... سآتي حالاً، استعاد زوجها رأسه واستعادت دهشتها، هالها أن تواظب العجوز على وقفتها، وأن تتفتّح باقات الحنان في انحناءات تجاعيدها بكلِّ ذاك الودّ، جرّبت أن تفهم سلوكها، خمّنت مقاصدها وتساءلت: ما عساها تنتظر؟ أن أنهار وأقول لها «أمّي»؟ إنها تحلم ولاشك. تمالكت نفسها وقرّرت أن تصلح شيئاً من فظاظتها، خاطبتها بلطفٍ بان زيفه: ما عساي أفعل من أجلك؟، أخفضت المرأة رأسها مخذولةًً، أفلتت كلماتٍ لم تُفهم، واستسلمت بعدها لسعالٍ طويل. هفهفت كلمة «أمّي» في صدر زينة، طاردت كالأشباح ذكرياتها، فهي لم تستخدمها يوماً في نداء أحدٍ ولن تفعل، والحرمان بالنتيجة مرٌّ حتى ولو كان من كلمة، ربما لهذا قرع قلبها أجراسه، وطبّل كالمخبول لاحزناً ولا فرحاً. رجع سعال العجوز يذكّر بوجودها، خطر لها لوهلةٍ أن تخاطبها: «يا أمي» بلا سببٍ، ولكنّ شيئاً ما كبح على الفور توقها، ولم يسمح لها إلاّ بكلمةٍ واحدةٍ: مريضة؟، ابتسمت المرأة لأول مرّة، هزّت رأسها موافقةً، وعلّقت بعدها على عجلٍ: ألا يبدو الأمر بديهياً!، انتاب زينة شعورٌ بالذنب، حملقت فيها ثانيةً، تملّت بعينيها الحاضنتين للبؤس، بثيابها الأشبه بمزق ثياب، وقرّرت... مدّت يدها إلى المحفظة، أخرجت بهدوءٍ ورقةًً نقديةًً، قبضت عليها لثوانٍ وهي تفكر بطريقةٍ ما لا تجعل من فعلها مهيناً، دسّت حيرتها داخل جلدها وتمتمت: هذه للدواء فقط، لم تغرق العجوز مجدّداً بدوّامة الانتظار، لم ترفض، لم تتنهّد، نظرت للورقة المدسوسة في يدها بحرقةٍ، تركت دعوتين صغيرتين، ومضت... مشت زينة بأجزائها المخدّرة نحو محل الفروج، وبالكاد فعلت حتى خرج زوجها مع رأسه ومع كيسين كبيرين: ـ أمسكي هذا عنّي واعطني الألف ـ أية ألف؟ ـ مابالكِ! ألم أضع معك ألف ليرة احتياط ـ ...... ـ زينة!!!... أريد أن أحاسب الرجل. لم تكن زوجته تعي لحظتئذٍ ما يقول بالضبط فقد انشغلت بمتابعة العجوز، شاهدتها توقف امرأةً أخرى في الشارع و تشدّها من ذراعها: ـ يا ابنتي... سأموت ـ أبعد الله عنك الشّر يا خالتي ـ نادني أمي واعطني أرجوك ما يمكن أن تعطيه لأمك المريضة ـ آ... فهمت، أقدر أن أناديك أمي... ولكن اسمعي يا أمي لا تغرّنك مظاهرنا لأننا ـ والله أعلم ـ «شحّاذون» أكثر منك... أعطاكِ الله وأعطانا يا... أمّي. |
|