|
ملحق ثقافي فاندماج الذات في الحاضر المتلاشي كل لحظة يكاد يلغي هويتها بمعنى أن فاقد الذاكرة فاقد لهويته ولصيرورته فالمرء في وعيه لذاته لابد له من عودة نحو الماضي أي أن حياته في الحقيقة هي الذاكرة «تاريخه الشخصي»
فالفرد منتج زمني يعتبر التاريخ وقوده الفعلي وأساس وجوده «فالذكرى وحدها ماتسحبه من العدم» كما رأها مارسيل بروست في «بحثه عن الزمن المفقود» من هنا يبدو وأن لمرور الزمن أثرا سلبيا في نفوسنا كما وصفها كلود سيمون بالقول «مايهلكنا إنما هو الزمن» ولأن الهلاك أو ترقبه هو حالة من التهديد المستمر لوجودنا نجد إثبات ذاتنا بردعه عن طريق تذكرنا لنعرض لأنفسنا أولا أن حياتنا هي نموذج من الثبات يسوغ لنا في عمقنا الإنساني تفسيرات نسوقها لنعي تصرفاتنا.
وعي الذات يورد غابرييل غارسيا ماركيز في بداية مذكراته «عشت لأروي» قوله «الحياة ليست مايعيشه أحدنا وإنما هي ما يتذكره وكيف يتذكره ليرويه» يندرج هذا الانتقال من الخاص / التذكر إلى العام /الرواية «فعل التحدث» بهدف إعطاء الخطاب بعده الإنساني فهو يدلف من خلال هذه القطعة الفنية إلى فضاءات سردية تتخذ من الشخصي واليومي مادة لها لفتح مغاليق النص عبر المراوحة بين الخيال / الكتابة والموضوعي / الحياة الإنسانية لكأن « الأنا « التي تنفصل في بداية حياة الكاتب في عزلته عن المجتمع تحاول في هذا السرد إعادة العلاقة «المصالحة» مع محيطه. يسلمنا هذا التصور إلى تحقيق هدف ضمني أبعد من سرد تاريخ خاص ليكون إنتاج فكر يتخذ من الذات محورا يدور حوله لاكتناه تناسب وجداني بين القيمة وفعل التذكر ترتحل من خلالها الذات الكاتبة إلى عالم قريب منها تتأمله وتتهجى ملامحه وكنه أسراره لتسعفه الذاكرة في التقاط المشاهد التي ترسو على حافة الرؤيا وإثباتها كفعل سردي مقاوم محاولا التخلص من ثيمة الموت ومن الرعب المرافق لها بإعادة طرحه للضد وهي الحياة كمنتج له خصوصية تتشكل ملامحها في محاولة إثبات الرابط بين الموجود داخل السرد وبين سياق خارجه يكمن في الذهن مؤسس سابقا ويحاول فرض رؤيته داخل النص.
ليس ممكنا ضبط الصلة التي تربط الكاتب بسرد حياته هذا يفضي بي إلى القول بمدى سعي الكاتب لأن يكون ذاته داخل تكوين سرده أو مدى قراءته لنفسه بطريقته الخاصة ليشهر حياته ونجاحه وجنونه دونما تحيز سطحي «لأنوية» صاحبها ودونما شبهة خوف تدفع به لإعادة صناعة نفسه بطريقة تتوافق والصورة التي يريدها لنفسه، لأن الحافز السردي هنا يخرج عن المهمة المنوطة به في التحرر من الكوابح الموجودة خارج العقل وداخله فتوفر شروط مطابقة الذات بانعدام الخوف وتجاوز محرمات التوجس ليصبح المتاح من الحياة هو الحقيقي فيكون النص لصيقا بصاحبه لاصورة لغيره، نصا يشجع انبعاث السرد بطريقة تتلاءم والدقة التي يعبر فيها الكاتب عن نفسه ليصل صاحبها إلى القول وحسب تعبير القديس أوغسطين في اعترافاته «هنا إنما التقي نفسي» لاكما عبر عنها يحيى حقي في سيرته الذاتية بقوله «أعوج رقبتي لكي تعتدل في نظره» تأخذ السير الذاتية ميلا إلى الانطواء الذاتي وإحلال التأمل «الجواني» في فسحة الروح عوضا عن البحث في الماديات خارج الجسد وبالتالي فهي انزياح لوجهة النظر في تهيئة السلوك وتبريره نفسيا ثم إعادة تنظيم مراتب الإدراك التي تحكم حياته إذ أن الأفكار المحمولة قابلة للاضمحلال أو الخنوع أمام سلطة الحواس أو وقوعها تحت إلحاح زجري داخلي يخلفه الخوف من عاقبة الاعتراف إذ ثمة حالات ماضية تكون مشحونة بحالات نفسية تسبب الضيق أي من النوع الذي لايمكن الاعتراف به حتى لأنفسنا ذلك أنها ستهز صورة الكمال التي سبق وصنعناها أمام الآخرين. الخطاب السردي تقوم سردية الذات على ابتكار عناصرها الخاصة فالشخصيات تستدعى عبر الذاكرة وتغيب بوصفها جزءاً من التجربة الحياتية للكاتب تتابع بعضها في حين يبقى الكم الأكبر منها عالقا في نسيج السرد وتتوارى شخصيات خلف أخرى لكأنها تتطور بتطور الزمن الخاص بالكاتب. وبانفتاح السرد على مرجعياته التذكرية يجتاز النص عتبة التخيل ليتحرر من قيوده في البناء أو الأسلوب فيجري تنضيد الأحداث والمواقف ويتخذ تيار الوعي كما فهمه روبرت همفري في ارتياد مستويات ماقبل الكلام دوره الكبير في النص فهنا كشف كياني نفسي من خلال تداعيات مركبة للخواطر الذاتية فهو يوفر إمكانية تداخل كل الأصوات التي يسمعها في ذهنه مما يجعل السرد نهبا لموضوعات متنوعة تدور حول محور رئيس فليس هناك من ضابط لإيقاع الأحداث فهي تجتمع من موارد عدة إذ أن كل شيء فيها يبدو محكوما بتقلبات وجوه الآخرين يحاول تيار وعيه تحويرها إلى شكل أقرب للمعقول وهذا مااتبعته مذكرات « ماركيز « حيث الرحلة إلى مسقط رأسه والوجوه والأماكن التي تعبر أمامه هي مايحرض ذاكرته إلى التذكر وإعادة حياته.
وأراد كتاب آخرون إعادة اكتشاف لحظات طفولتهم بأسلوب فلسفي عميق النظرة كما عند جان بول سارتر في جزءه الأول «الكلمات» ونيكوس كزنتزاكي «تقرير إلى غريكو» وعبر تحليل فردي تغادر هذه اللحظات كونها لجوء إلى « زمن آمن» لتكون بحثا عن تفسيرات علمية لحياة تبدو لحظاتها بعيدة عن متناول العقل في محاولة لفهمها . فاتخذوا مسارا أفقيا في سرد ماضيهم. في حين عمد آخرون إلى تقسيمها إلى لحظات زمنية كما هي مذكرات وليد إخلاصي فاتكأ في تقسيمها على المكان مرة «حمص وطن جديد» «حلب أخيرا» وعلى وعيه تجاه حادثة ما مرة أخرى «بانتظار قادم جديد» «جيران لاأنساهم» . وأغوت السير الذاتية بعضهم للكشف عن جوانب إنسانية غير معلنة لدى الكاتب «كاعترافات جان جاك روسو» وسرده لعشقه الطفولي ويوميات الواحات لصنع الله إبراهيم وذكره للحظات الضعف التي مر بها في سجنه وكان المكان حاضرا عند آخرون كأورهان باموق في مذكراته «اسطنبول المدينة والذكريات». تجاذب الخيال والواقع تبدو الكتابة السيرية وككل فعل من أفعال الذاكرة خاضعا للاصطفاء والانتقاء والنسيان ونظرا لكمية المعرفة التي يجب معالجتها في الكتابة تظهر بداية وكأنها عمل غير منجز للذاكرة يروم صاحبها إخراجها من مكمنها خالطا خشيته بغواية الكتابة عن نفسه ومحاولا «تمجيد ماضيه» كما عبر أوغست كونت ولذا فهو بناء متحرك في ذاته تشتد فاعليته وفق طبيعة الذكريات المستدعاة وهو استنزاف هش وقلق ذلك أننا نشعر بالريبة أمام كتابة الذات للذات لاستحالة خلق مساحة ثالثة بين رغبة الفرد وكتابته فالماضي الخاضع لرقابة العقل يتخذ شكلا هجينا ينحو إلى نوع من الغائية ذلك أن ذاكرتنا كما يرى غاستون باشلار « لم تحتفظ إلا بذكرى الأحداث التي كونتنا في اللحظات الحاسمة من ماضينا « وأجد مثلا أن كتابة مذكرات يومية عفوية ليست بقصد النشر تنطق أكثر مما يخطه عقل واع من حياته في سيرته الزمنية، وقد استطاع فرويد بتحليل نفسي حاذق اكتشاف ميول دافنشي الجنسية وشذوذه من خلال يومياته التي خرجت تلقائية دون رقابة العقل عليها، فالفرد كما يرى فرويد «يقمع بعض ذكرياته ليمنعها من البروز تظهر أحيانا في الأحلام أو زلات اللسان أو القلم» وبما أن السير عمل قابل لإعادة النظر فيه من قبل صاحبه قبل نشره يبعده عن العفوية أو الزلل فالنص هنا عامل لإضفاء الشرعية على الحياة السابقة للكاتب لاكاشفا لها فمنهجها تيار الوعي وتشكيلها دائري يقيم فيها الكاتب داخل اللغة وليست اللغة هنا شيئا أخر غير الزمن الفائت وفق تعاقب في الأنا الفردية بالانتقال من زمن تجريدي ذهني إلى تقييده كزمن عيني حاضر ورؤية فردية للعالم تحيل إلى التصورات التي يصنعها الزمن كميا. تعتبر النصوص بمجملها فعلا توثيقيا أدبيا مخضبا بالسرد تتأرجح بين الشك واليقين بفعل جدلية الممكن والمستحيل تحاول فيها الذات صرف عالم الغياب والتشيؤ عنها بجعل مادية الجسد منظومة تسلسلية زمنية تحرك الفكر وتحثه، ووسيلة لدحض الخطيئة / إن وجدت / بغفران الاعتراف بين يدي قارئه والتحرر من موروث الماضي غير عابئة بما يؤول إليه السرد حتى لتبدو نهاياتها « طوباوية « مفتوحة باتجاه الأمل كنوع من الانتصار للقيمة الإنسانية يريد الكاتب بها القول : « الزمن يمضي وأنا باق» |
|