|
ملحق ثقافي والأديب الساخر هو القادر على إدراك والتقاط مفارقات الحياة بذكاء وبراعة وإعادة تركيبها بطريقة يفاجئ بها القارئ أو المشاهد أو السامع، والأديب الساخر لديه استعداد فطري وحساسية عالية وعينان نافذتان. تتراوح السخرية بين السطحية والعمق تبعاً لموهبة الكاتب. وتزداد السخرية مرارة وعمقاً حين تشتد التناقضات في المجتمع إلى حد لا يمكن قبوله وخاصة لدى الأديب الذي يعيش بأعصاب عارية. وأعظم السخرية تلك التي تثير الابتسامة على الثغر وتجعل العقل يفكر بعمق فيما يجري.
والسخرية سلاح خطير تخيف صاحب الخطأ لأنها تهز اعتباره ومكانته التي يحرص على التظاهر بها أمام المجتمع كما أنها تزيل الرهبة عند الساخر وتجعله أكثر جرأة لأنها تهدم صنم الخوف لديه. أعتقد أن علاقتي بالقصة الساخرة بدأت بقوة في مجموعتي الثانية “قصة انتحار معلن” فقد شعرت أن الواقع الاجتماعي والسياسي قد تورمت فيه العيوب إلى درجة لم يعد وصفها أو تصويرها بشكل واقعي مجد، فلا بد من وسيلة أقدر، فكانت السخرية السوداء هي الأقدر على ذلك. ففي القصة التي تحمل عنوان المجموعة نرى بطل القصة يريد الانتحار احتجاجاً على الظلم الذي وقع عليه، وقد قرر قبل أن ينتحر أن يقوم بما يتمناه من أعمال ينتقم فيها من الفاسدين، كما يريد أن يهز انتحاره سُبات المدينة.. لكنه وجد أن المدينة مشغولة عنه بمباراة رياضية هي الأهم. ويطالبه الكناس أن يرمي نفسه حتى ينهي عمله. وفي مجموعتي الثالثة “الدوران في قاع الزمن” تعلو السخرية المريرة أكثر. ففي قصة “تكنولوجيا” نرى حاكماً من حكام العالم الثالث يسافر ليُحْضِرَ لبلده أحدث وسائل التكنولوجيا من أجل التطوير، ويكتشف الأهالي الذين حُشدوا لاستقباله أنه قد جلب معه آخر وسائل الإعدام وهو كرسي كهربائي. وحين يضع الجلاد المحكوم على كرسي الإعدام يكتشف الملك أن الكرسي لا يعمل إذ لا يوجد كهرباء في البلاد بعد. وتابعت هذا الأسلوب الساخر أيضاً في مجموعتي الرابعة التي حملت عنوان “يوم بكى الشيطان”، فقد بكي الشيطان في هذه القصة لأن الفاسد الماكر الذي تعب الشيطان في تربيته وأوصله لمنصب هام قد تنكر له ونقش على باب قصره عبارة يريد أن يخدع بها الناس وهي “هذا من فضل ربي”! وفي المجموعة نفسها، وفي قصة “الضغط على الوريد النازف” نرى بطل القصة يرمي التلفاز من النافذة بعد أن ضاق حتى الاختناق بالتناقض وأخبار القتل والنفاق والدجل الذي لا يستطيع وقفه وكيف غدا التلفاز الوسيلة الأساسية في الثقافة. ولكن قاذف التلفاز هذا قد غدا مجنوناً في نظر زوجته والمجتمع، وعوقب بأن يشاهد البرامج التي يريدونها على شاشات تلفازات عالية وغير قابلة للكسر. والمجموعة الخامسة لا تخرج عن هذا المزاج المشبع بالمرارة الساخرة فكان اسمها “ضحك.. كالبكاء” فالبطل في هذه القصة كان يروي لمديره وضيوفه نكتة كل يوم. لكنه عجز في هذا اليوم عن روي أية نكتة، فقد مات بائع الغاز العجوز وهو ينقل جرة الغاز إلى طابق مرتفع. وحين يروي للمدير قصة بائع الغاز وما جرى معه للتخلص من الجثة، ينفجر المدير وضيفه بالضحك إذ وجد في هذه المآسي التي يجهلونها مادة رائعة للضحك. وقد استخدمت في المجموعات السابقة أيضاً أسلوب القصة القصيرة مستخدماً الحدث المركّز المكثّف جداً كقصة “عبد” في مجموعة “قصة انتحار معلن”: حين صفعه سيده على وجهه.. لم يغضب لأنه فقد ثلاثة من أسنانه ولم يغضب لأن الدم سال غزيراً من شفتيه.. بل غضب كثيراً وتألم كثيراً لأنه لن يستطيع بعد الآن أن يقول عبارة “يا سيدي” بشكل صحيح بعد الآن! |
|