|
ملحق ثقافي عن ثيمات ثابتة في عالمه القصصي ظلّت ملازمة له بدرجات متباينة منذ مجموعته الأولى: «صهيل الجواد الأبيض», ومرورا بمجموعاته: «ربيع في الرماد», «الرعد», «دمشق الحرائق», «النمور في اليوم العاشر», «نداء نوح», «سنضحك», وانتهاء بآخر أعماله الإبداعية: «الحصرم», «تكسير ركب», «هجاء القتيل لقاتله». بعض تلك الثيمات يتعلّق بالمتن, مثل: القمع الجنسي, والعسف السلطوي, والعنف المضمر, والانفصام النفسي, والموات الروحي , وانفلاتات العقل الباطن, وتبدّل منظومة القيم والأعراف, والجوع إلى الخبز والجسد والحريّة. وبعضها الآخر يتعلّق بالخطاب,
مثل: تداخل الواقعي بالفانتازي, والتّناص مع الموروث التاريخي أو الشعبي وتوظيفه في سياقات فنيّة ودلالية جديدة, ومجازية اللغة, وجاذبية العنونة والاستهلال, وانفتاح النهاية, ونزعة السخرية السوداء اللاذعة القائمة على مفارقات الواقع, واللغة, والأسماء, وإحالاتها الرمزية. إن «السخرية» تقترن في طيفها المعجمي بالاستهزاء والتهكّم والضحك أيضا, وهي تتجاوز في الخطاب التامري هذه المعاني إلى الهجاء الحاد لمجمل البنية الاجتماعية السياسيّة المعاصرة وتمظهراتها عبر علاقة الحاكم بالمحكوم, والرجل بالمرأة, والغنيّ بالفقير, والمسلّح بالأعزل, والقديم بالجديد, والنبيل بالوضيع. ولا تبرز السخرية في هذا الخطاب بوصفها انتقاصاً من سلوك فردي, أو نظام محدّد, أو تعويضا عن عقدة أو عجز, أو إثارة للضحك المجّاني, بل بوصفها تقنيّة فنيّة, ومنظورا إبداعيا يتغيّا التعريض بالفساد والانحطاط الأخلاقي والوجداني العام, ومهمازا يمزّق الأقنعة المخاتلة, ويوقظ الضمائر الميّتة. وإذا كانت المفارقات الساخرة في أعمال تامر الأولى: «الرعد», «دمشق الحرائق», «ربيع في الرماد», تجد مرجعيتها في العلاقة بين الإنسان المقهور والشرطيّ بوصفه تمثيلا رمزيا للاستبداد, وفي استحضار الشخصيّات التاريخيّة المؤمثلة والقارّة في الوعي الجمعي: طارق بن زياد, عمر المختار, يوسف العظمة, سليمان الحلبي.., ومحاكمتها وإدانتها بتهم شتّى بقصد تعرية النظام العربي الراهن وما آل إليه, فإنها في مجموعته: «تكسير ركب»)1( على وجه الخصوص, تجد هذه المرجعيّة في شبكة علاقات الواقع اليومي المعيش بكلّ شخوصه وتفاصيله عبر التناقضات والمفارقات الساخرة والحادّة بين المعلن والمضمر, والقول والفعل, والكبت والإشباع, والسموّ والانحطاط. ويمكن معاينة ذلك بالوقوف على ثلاثة محاور رئيسة في هذه المجموعة, أوّلها: تبدّل القيم, وثانيها: تبادل الأدوار, وثالثها: لعبة الأسماء ومفارقاتها. تبدّل القيم تنفرد هذه المجموعة بعنونة القصص بالأرقام التي تبدأ من الواحد إلى الثلاثة والستين إمعانا في التجريد والترميز اللذين يرتفعان بمكان وزمان وشخوص القصة من حيّز الواقع ومرجعياته إلى حيّز الأمثولة ودلالاتها من جهة, وإعلانا خفيّا من جهة ثانية عن ترابط المضامين وتناسلها تحت ثيمة العنوان الرئيس: «تكسير ركب», الذي يكشف بصيغته الكنائية عن نزعة عنيفة, ويشي بأفعال وأحداث وتداعيات صادمة وقاسية للقارئ الضمني أو المتوهَّم! وتتبدّى السخرية اللاذعة في عدد من القصص/ اللوحات, التي ترصد التبدّل الخطير في منظومة القيم, كما في القصة رقم«58» التي يُنتَزع فيها «فريد المربّع» من سريره وهو في ثياب النوم بتهمة رفضه للرشوة! ولا يقتنع المحقّق ببراءته إلا بعدما يعرض عليه مبلغا من المال فيأمر حينذاك بإطلاق سراحه. لكن اعتقاله واتهامه بتلك التهمة الشائنة(رفض الرشوة)! جعلاه حتى موته لا يجرؤ على المشي بين الناس مرفوع الرأس! تلك هي السخرية السوداء التي تنضح بمرارة المصير الذي واجهه «فريد المربع», حيث ُيحاكم على نزاهته ورفضه للرشوة, بدلا من تكريمه! وفي القصّة رقم «39» يبدو الطريق إلى الترقية سالكا مادامت الزوجة هي السلّم, والجنسية الأميركية مكافأة نهاية الخدمة! وهو ما تعزّزه القصّة رقم «35» التي تصل فيها «إقبال الطبّاخ» إلى سدّة البرلمان بعد طلاقها للزوج الخائن, وشرائها ذمم الرجال من بعده! والقصّة رقم «4» التي يفقد فيها التلميذ أمله بالنجاح لأن أمه لا تعرف سوى أبيه! فيما يأمل زميلاه بالنجاح لأن أم الأوّل منهما تعرف وزير التربية, وأم الثّاني تعرف قائد الشّرطة! والقصّة رقم «34» التي يتحوّل فيها المستشفى من دار للشفاء إلى دار للبغاء! والقصّة رقم «32» التي يستمرىء فيها المعلم درويش مهنة القوادة التي تدرّ عليه ربحاً بدلا من مهنة التعليم العقيمة! إن خيارات ومصائر الشخصيّات تبدو في القصص السابقة هي القاعدة والعرف الذي تقرّه منظومة القيم الجديدة للمجتمع! ومن هنا يصبح الفساد معيارا للنجاح والترقيّ, وتصبح النزاهة معيارا للغباء, وتلك لعمري سخرية مرّة ما بعدها سخرية وإن تخفّت وراء قفّاز من حرير الكلام التامري الشائق والمشحون بالانفعالات والظلال النفسيّة والجنسيّة الكثيفة والدلالات الرمزية البعيدة. تبادل الأدوار تبدو المرأة في مجموعات تامر الأولى كائنا مستلبا, وجسدا مستهدفا, وروحا ظمأى إلى الحب, في مجتمع ذكوري شرقي يقصيها ويحجبها ويجلدها بقدر ما يرغب فيها ويشتهيها! أما في «تكسير ركب» فيتم تبادل الأدوار بينها والرجل, فتغدو هي الجلاّد, وهو الضحيّة! وهذا ما تكشف عنه القصة رقم«1» حيث المطر العاجل يتيح للنساء الحبل والإنجاب بغير رجال, فيعاني الرجال البطالة ولا يحظون أينما حلّوا إلا بالطرد والهزء والازدراء! والقصّة رقم «2» التي تطلِّّق فيها «رئيفة» زوجها بعد أسبوع واحد من زواجهما لأن زوجها كان دائم الوقوف أمام المرايا, ولأنها سمعت رعدا ورأت برقا, ولم ينهمر المطر! والقصّة رقم «7» التي تخلع فيها الزوجة ثيابها بجرأة أمام زوجها «مصطفى» فيما هو يحاول تخمين سعر كل قطعة منها! والقصّة رقم «22» التي تنجب فيها الزوجة خمسة أولاد في غياب زوجها المعتقل«عبد الستّار» دون حرج! والقصّة رقم «33» التي تستسلم فيها «عائشة» للرجل الملتصق بها أثناء الجنازة متمنيّة أن يتمادى في جرأته! والقصة رقم «15» والمفارقات الجنسية التي تشهدها «نزيهة», والقصّة رقم «12» التي تَغتصبُ فيها وفيقة زميلَها «مروان القصير» داعية إياه بعد ذلك إلى تغيير كنيته من «القصير» إلى«الطويل»! والقصّة رقم «19» وتداعيات الزوجة«هدى» وانفلات عقلها الباطن الذي يستعيد صورة الشاب المشنوق وهو يواقعها فيما هي ترقد إلى جانب زوجها! والقصّة رقم «24» وحاثة اغتصاب الأزواج..! إنّ السخريّة في القصص السابقة تتأتى من المفارقات الكوميدية السوداء الناجمة عن تصوير ورصد التحوّلات المتسارعة في بنية المجتمع ونمط الحياة الاستهلاكية فيه, وما يشهده من مؤثّرات ثقافية معولمة تخلخل منظومته الأخلاقية وأعرافه وتقاليده دون بديل أو خيار آخر! وما قصص تبادل الأدوار بين الرجل والمرأة التي عبّرت عن تلك المؤثّرات والتحولات إلا استشراف لأزمات عميقة مقبلة ما زالت في أوّل الطريق. لعبة الأسماء ومفارقاته: للأسماء في الخطاب القصصي التامري وظيفتها الفنيّة التي تعمّق دلالة السياق شكلاً ومحتوىً سواء أكان تعبيريا أم رومانسيا أم ساخراً. فهي تنتقل من حدودها العلامية الدالة على الشخصيّة ومهنتها وبيئتها أحيانا إلى المجال الرمزي الذي يوسّع تأويل سلوكها ودوافعها واتجاهاتها وغائيتها. وتأتي بعض الأسماء متوافقة مع مسميّاتها ودالة عليها سلوكا وعملا, كما في اسم «علي الطيّب» الذي ينفر من الفساد المستشري ويتمنى ألاّ يستيقظ من غيبوبته حتى لا يرى ما يراه من ظلم وقبح! واسم «فريد» الذي ُيعتقل بسبب فرادة موقفه الرافض للرشوة في زمن تصبح فيه سلوكا موجبا! أما معظم الأسماء فتأتي متناغمة مع السياق الساخر فتبدو مفارقة لدلالتها المباشرة على الشخصية القصصية, ومن هنا كان اسم «محسن المحسن» مفارقا في دلالته لحامله ونقيضا له ولسلوكه الفاجر, وكذلك اسم «درويش» الذي يمتهن القوادة بدلا من التعليم, واسم «نزيهة» التي تغرق في الشبهات الجنسية, ولكأن الاسم عند تامرـ على حدّ تعبير فيصل درّاج ـ تقنية جديدة ينقلب فيها إلى نقيضه: «وإذا نقيض الاسم المعلن تصريح عار بسلوك الإنسان وقيمه. كأن نقائض الأسماء مجتمعة إعلان عن حقيقة مجتمع منافق, أدمن الانحطاط باللغة المتطهّرة. ولهذا يكون قول القصّة بسيطا وموغلا في البساطة, مقتصدا وشديد الاقتصاد, قوامه «قلب الاسم العلم» ونقضه, إذ الشريف من لا شرف له, وإذ الأمين من أجاد ألوان النهب والسرقة والاحتيال..»(2). لقد بات واضحا أن السخرية في الخطاب القصصي التامري هي غيرها عند حسيب كيّالي, أو عزيز نيسين, أو محمد أبي معتوق, أو خطيب بدلة. إنها سخرية سوداء لاذعة أبعد ما تكون عن الدعابة أو الضحك. إنها تنحو منحى التكثيف والاقتصاد في اللغة, والعمق في الدلاّلة, والغلوّ في الهجاء والتعرية والنقد, وتحطيم الحدود بين الواقع والمتخيّل, واستبطان الداخل المضمر, والميل إلى التجريد والأمثولة الرمزية. ولعل مجمل نتاجه لا يخلو من هذه النزعة/ التقنية أو الأسلوبية التي تميزه عن سواه, وتجعل منه ظاهرة إبداعية فريدة لا تشبه إلا نفسها في هذا المضمار. حذفت الهوامش لضرورات النشر |
|