تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حياة الرواية وموتها

ملحق ثقافي
5/1/2010م
المؤلف:أحمد حسين حميدان:لا نكتشف جديداً حين نقول: إن لكل ممارسة إبداعية نوعها وركائزها وسماتها التي تميزها عن سواها المختلفة عنه في التشكل والتكوين..

ولا نعثر على شيء من المبالغة أو الغرابة حين نقرأ لرولان بارت عن التداخل القائم بين أجناس هذه الممارسات الإبداعية في تعبيرها المتباين عن المكابدات الإنسانية وآمالها وأحلامها المتعددة.. فليس ثمة ما يمنع استفادة القصة من تقنيات الخطاب الروائي أو الشعري..وليس ثمة ما يمنع استفادة البنية الروائية من جماليات اللغة الشعرية وانزياحاتها وبلاغة الصورة وتقنية القطع السينمائي إذا كان ذلك يخدم السياق فيها ولا يتعارض مع ما يعتمل داخل قوامها الروائي وهو ما ينسحب على الفنون الأخرى طالما أنه لا يتعارض مع بنيتها الأساسية المختلفة عن غيرها في سائر المشهد.. فلا سلطة للقصيدة تقوى بموجبها على إلغاء القصة القصيرة كفن سردي له خصوصياته ومميزاته.. ولا سلطة للرواية تعتقل بها المسرحية أو القصيدة وتنفي أياً منهما إلى الزوال..‏

وما التصريح الذي تمّ تناقله والترويج له عن موت الرواية ـ كفن سردي وكشكل للكتابة التعبيرية ـ إلاّ ضرب من ضروب الوهم الذي لا ترقى فيه الرؤية إلى البصيرة العلمية النفّاذة. لأن حياة الرواية وفناءها هو حكر للرواية ذاتها كما هو حكر لروحها ولقوامها السردي المبتكر أساليبه وطرائقه التعبيرية المتجددة وليس من ملكية أحد أو جهة ما حتى يتم الإعلان من خلالها وحسب مشيئتها عن حياة الرواية وموتها أو حياة وموت أي جنس إبداعي آخر..‏

بهذا المعنى يكون الإبداع هو المبتكر الأوحد حياته وموته.. وبهذا المعنى يكون الاجترار والتكرار هو المتواطئ الأول على حياة هذا الإبداع في كل الفنون التعبيرية ـ أياً كان اسمها ـ ويكون هو قاتل بقائها بعدما انتفت عنه أسباب الوجود.. عبر هذا السياق قدّم الكاتب البريطاني نايبول إعلانه عن موت الرواية, ليعبّر من خلاله عن قلقه وحيرته من علاقة الشكل الأدبي بالواقع ومن طغيان الشكل الواحد في الكتابة قائلاً: إن الكاتب الذي يمضي عمره في كتابة الرواية يصل إلى حد تزييف المادة التي يعمل عليها؛ لأن طغيان الشكل الروائي وتقنياته يجبره على التعامل مع الواقع بشكل محدد.. واتجه نايبول بعد ذلك بالفعل إلى كتابة أخرى عن الأمكنة ومعاينة الواقع فيها من خلال الرحلات والسفر.. لكن الرواية بقيت حية ولم تمت لأنها ظلت تستولد طاقاتها وتقنياتها الأخرى التي راحت تعتمد من خلالها على أنماط وسمات غير معهودة؛ كاعتمادها على الحبكة غير المركزية وعلى السرد الدائري والمتقطع المعتمد على تعدد أصوات الراوي.. وفي الوقت الذي بدأت تتردد فيه أصداء النهايات السوداء الفجائعية والمؤلمة المنبعثة من أرجاء الفضاء الأمريكي والأوربي لتبشر: بصراع الحضارات ونهاية التاريخ وموت المؤلف وموت الرواية ؛ كان الفضاء العربي يردد ـ على عكس عادته الحديثة ـ صوتاً معاكساً يعلن فيه بشهية غير عادية حياة الرواية وزهوِّ مؤلفها إلى حد أغرت فيه غازي القصيبي إلى الذهاب من قصيدته إليها كما شدّت تركي الحمد من مقاله السياسي لإنجاز نصها..ناهيك عن أحلام مستغانمي التي هجرت هي الأخرى كتابتها الشعرية لسرد فصولها السردية في ثلاثة أجزاء.. وعندنا مَنْ ارتحل من كتاباته المسرحية والقصصية والنقدية إلى معمارها السردي مثل خليل صويلح وغازي حسين العلي ونذير جعفر.. وإذا كان غابرييل غارسيا ماركيز قد اعتبر القصة القصيرة هي الفن السردي الأصعب في الإنجاز, فقد ذهب زكريا تامر في توصيف الرواية بأنها فن الثرثرة!.. إلاّ أن ثمة مَنْ أخذه حماسه للرواية إلى النقيض من ذلك, ليقول بعقلية إقصائية: إنها باتت ديوان العرب, ليسدل ستارة الغياب على المكانة التاريخية التي حظيت بها القصيدة الشعرية في الحياة الثقافية والاجتماعية القبلية العربية. ومهما يكن من أمر فإن هذه التباينات على حماستها لا يمكن لها أن تستقيم في سياق أو تستوي في جدوى لأن التدوين ذاته أخذته الوسائل الحديثة إلى غير ديوان وإلى غير ذاكرة.. ولأن الرواية لا يمكن أن تكون بديلاً عن الشعر كما لا يمكن أن يكون الشعر بديلاً عن الرواية أو القصة أو المسرحية فلكل منها خصائصه وسماته المميزة وصفاته المختلفة عمَّن سواه في سائر المشهد..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية