تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قرار أخير بلغة الأدب

كتب
الأربعاء 6-1-2010
لميس علي

(أكثر ماكان يشغله قبل أن يقدم على الانتحار عقوبة مابعد الموت.. لم يكن مقتنعاً أن الله العادل يعاقب من فرّ إلى عدله من ظلم دنياه، لم يكن يؤمن أن الجنة الواسعة تضيق بمن آمن بها وفرّ إليها..

.. أخيراً استطاع أن يغفر لنفسه وللعالم أجمع، اختفت جميع مخاوفه من الغد الذي لم يعد مجبراً على انتظاره، ربما كانت غايته من الانتحار هذه الطمأنينة التي يشعر الآن بها وهو على بعد سبع ثوان من النهاية..).‏

يسرد سمير قسيمي في روايته (يوم رائع للموت) إحدى الروايات المرشحة لجائزة البوكر العربية، تفاصيل يوم معبأ بالذكريات وتناقضات حياة امرئ كبطله (حليم بن صادق)- الجورناليست- الذي قرر الانتحار والتخلص من حياة لطالما كبلته ومسخته.. قراره (انتصار ساحق على هذا الذي قيل إنه لايهزم- القدر، لم تعد الحياة في حياته كطابة تلهو بها رجل القدر فتسجل الأهداف كيفما شاءت ووقتما تريد..).‏

عمل على تنفيذ قاعدته التي توصل إلى الاقتناع بها بعد طول تفكير وتمحيص فأراد أن يكون هو ذاته ذاك المنتحر.. الاستثناء البشري لقاعدة القضاء والقدر.‏

بكل هدوء وسلاسة يحفر قسيمي بحيوات أناس الهامش، أبطاله شخصيات يقتنصها من قاع مجتمعه.. لكنه يدرك أصول لعبته الروائية، فيبتعد عن أي مباشرة أو فجاجة بطرح فكرته التي يريد الخلوص إليها.‏

يبرع برسم صفات شخصياته النفسية، وكما لو أنه يهتم بها أكثر من انحيازه لأي مشاهدات بصرية تنساق إليها عيناه فينقلها قلمه.. من ذلك مايسوقه كأحد دوافع البطل للانتحار.. (لم يكن الحل صعباً كما تصور دائماً، كان لابد له من الرحيل مثلما فعل شقيقاه الأكبر منه، هما أيضاً دفعا من عرقهما وحياتهما الكثير.. ولكنهما على عكسه انتفضا، صرخا في وجه أبيهما «كفى» وخرجا من بيته المستأجر ورميا ديونه التي لاتنتهي خلف ظهريهما، انصرفا إلى حياتهما، تزوجا، أنجبا أولاداً، فعلا كل مايرغب في فعله ولم يستطع لذلك أهدى والديه حياته، استمر في دفع ديون أبيه وإيجار الشقة ومصروف أخته وأخيه البطال دوماً ودواء أمّه العجوز.‏

في تلك اللحظة بالذات قرر أن يخرج من حياة هؤلاء جميعاً، ولكن.. بطريقته).‏

يخلق المقطع السابق تصوراً كاملاً لحياة أناس حي (باش جراح) المكان الذي يربى به (حليم)، وما فيه من تداعيات تستوجب وتحرض الخيال لابتكار معادل بصري يجعلك كقارئ ترسم ذاك المحيط- البيئة التي أرادها وتقصدها الروائي.‏

ومع أنه ينشغل بالفكرة أكثر من التوصيف المكاني الملموس لمشاهد روايته إلا أن إحساساً يلازمك وكما لو أن هذه الرواية عُملت بطريقة أقرب لكونها مصنوعة كسيناريو سينمائي.‏

قلم قسيمي وما يكمن وراءه من لغة فنية يتفنن بخياطة مشاهد بصرية تصلح لعين الكاميرا، بسبب أجزاء فصليه (الأول والثاني) التي يتم سردها وكأنها لقطات فيلمية.‏

في الآن ذاته يعمل على سبك هذين الفصلين أو سبك الرواية ككل وجعلها مشبوكة ببعضها، فالكيفية السردية التي يتبعها تفترض الإتيان بالفصل الأول بجميع أجزائه ثم يوهمنا عبر عنوان آخر هو (الفصل الأول مكرر) أنه يُعيد بناء هذا الفصل بجميع تفاصيله..هو يقدم لكل جزء (مشهد) بذات المقدمة التي يبني عليها نظير هذا (المشهد) في الفصل الأول (المكرر) افتراضاً والذي ليس هو في حقيقته سوى فصل آخر يتمم الأحداث التي بدأها فيما سبق.‏

يعود ليوحد الفصلين-التوءمين بفصل آخر (ثان) يشتمل الخاتمة.‏

فنية طرائقية تحفز خيالك نحو إبصار ذات المشهد من زاويتي رؤية مختلفتين.. تماماً العملية تشبه إلى حد ما خلق احتمالين لذات اللقطة السينمائية..‏

بالنسبة للزمن..‏

«يمط» الزمن لدى قسيمي، ذلك أن الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية يوهم أنه لايتجاوز (15) ثانية، الوقت اللازم لإتمام عملية الانتحار التي يقدم عليها (حليم).‏

بينما الزمن الفعلي يتنقل مابين الماضي واللحظة الحالية- لحظة الانتحار..‏

(15) ثانية تكفي لدى الروائي لإنهاء حياة البطل ولجعلها تتقاطع مع حيوات الشخصيات الأخرى عبر مرور شريط الذاكرة أمام عيني (حليم).‏

هناك تكثيف زمني يطلعنا على بعض من حياة أناس آخرين مثل: صديقه (عمار الطونبا) وخطيبته السابقة ( نبيلة) وغيرهما.‏

ولكن هل تمت عملية الانتحار بنجاح؟.‏

سخرية الحياة وعبثها دفعته لأن يسخر هو منها ويعبث بها على هواه، لقد كلفه الأمر المخاطرة بحياته.. فقامر بعمره..‏

(الآن فهمتك أيها القدر، أيتها الحياة، أنت كأي غانية كلما سعيت إليك تماديت في الفراق، وحين أبتعد تلوحين لي، فيأسرني طمع رضاك مرة أخرى، فأدنو..).‏

إذاً أدار ظهره للحياة، فتلقفته وأعادته إلى أحضانها فشلت عملية الانتحار وعاد منها بحياة أخرى، عبر صدفة جعلته لدى سقوطه من علو (15) طابقاً يقع على شاحنة الأثاث والفرش التي كان يقودها والده إلى شقتهم الجديدة.. وستلاعبه الحياة مرة أخرى لتخطفه ميتاً بتوقيت هي اختارته لم يختره هو.. يسقط (حليم) ميتاً وهو يأكل المكسرات، بعد أن نجا بأعجوبة من محاولة الانتحار.. لتستمر مراوغة القدر- الحياة له.‏

نهاية أراد- ربما- بها الروائي تأكيد اعتباطية النهايات وعبثيتها هارباً بهذه النهاية من الخاتمة السعيدة.. محاولاً سحبها إلى ركن أكثر واقعية.. إلى ركن يُعلن على الملأ.. لايؤتمن جانبك أيها القدر، كما أنت أيتها الحياة.‏

وليبق الجديد والمفاجئ لدى (قسيمي) محصوراً بالتقنية الروائية وفقط.‏

الكاتب: يوم رائع للموت. - المؤلف: سمير قسيمي. - الناشر: الدار العربية للعلوم- ناشرون- الجزائر 2009م.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية