|
ملحق ثقافي المحلية وأهدافه الفكرية والإنسانية، وإن هذا الفن يهتم في الواقع بنتائج العمل الدرامي ومقولاته وأثره على الجمهور ومعرفة ما إذا كان هذا الأثر مفيداً أو ضاراً. ثم إن الدراما، بتعريفها العلمي الحديث الذي يقول إنها قصة يرويها أبطالها بوساطة الممثلين أمام الجمهور، وبنوعيها الرئيسيين وهما الكوميديا والتراجيديا، تغلبت جماهيرياً منذ عقود على فنون الأدب المقروء كالشعر والقصة والرواية واجتذبت إلى شاشات التلفاز ولأسباب ليست دائماً ثقافية أو فنية أعداداً متزايدة من المتفرجين في معظم بلدان العالم ومن كل الأجيال، على الرغم من محاولات العودة لقراءة الكتب في أوروبا وأمريكا وروسيا والصين، وخاصة لدى المتعلمين من الشباب الذين سئموا القعود أمام الشاشة الصغيرة والفرجة على دراماتها المستهلكة وفضلوا عليها السينما والمسرح أو الإذاعة، وأخيراً الانترنيت. وعلى كل حال لم يقل أحد منذ المسرح الإغريقي وحتى الآن أن على الدراما أن تلتزم بالواقع المعاش، فقد راح مؤسسو المسرح الأوائل يعتمدون على الأساطير وحكايات الآلهة والبطولات الخارقة، وكذلك فعل كبار شعراء المسرح في الشرق والغرب، رغم أن الواقع ظل وحده القاسم المشترك الأهم في هذه الأعمال الكلاسيكية وتمثل في السعي إلى خير الإنسان والانتصار للحق والحرية والعدالة في كل مكان، وذلك من خلال فهم الواقع وتمثله في الذاكرة وإعادة رسمه بصيغة فنية ابداعية.
ليس مهماً إذاً أن تكون أحداث العمل الدرامي وتفاصيله نسخة عن الواقع بل إن المهم طرح مسألة واقعية ومعالجتها مباشرة أو بشكل غير مباشر والأهم نجاح هذا العمل في إيصال الأثر الواقعي الإيجابي المطلوب إلى جمهور المشاهدين من غير أن يفقد جماليته الفنية الممتعة. وقد حرصت الدراما التلفزيونية السورية منذ نهضتها قبل عقود على تحقيق هذا الترابط المنسجم بين الواقع العربي الرديء أو المتخلف وبين الصورة الفنية الممتعة أو المشوقة، فجاءت تأثيراتها في الغالب مفيدة للمتفرج العربي ومؤثرة في تفكيره وإحساسه بمواقع الحق والخير والجمال وتأييد ضرورة انتصارها على بؤر التخلف والرجعية والفساد والقبح والظلم. وكان هذا الحرص على معالجة الواقع العربي في الدراما السورية أهم أسباب نجاحها وانتشارها عبر مسيرة العقود الفائتة. لكن الأعوام القليلة الماضية أظهرت للأسف تراجعاً ملحوظاً في هذه المسيرة التي كان قد بدأها القطاع الخاص السوري في غياب القطاع العام بالكامل تقريباً عن أي تطورات، وقد كان التراجع نوعياً ونتيجة لنشوء شركات عديدة لم يبحث معظمها إلا عن تمويل إنتاجه من قبل محطات عربية أو أجنبية ناطقة بالعربية وضمان أرباح تفوق الحد المعقول، رداً على أجور النجوم في التمثيل والإخراج التي تجاوزت أيضاً الحد المعقول. وهكذا ابتعدت أعمالنا الدرامية السورية عن الواقعية والمحلية ما تسبب بسرعة في انحدار نوعية الإنتاج إلى المستوى التجاري الذي يذكرنا بالسينما المصرية في الثمانينيات... وظلت أعمال سورية كثيرة تعاني من الكساد ليس أبداً أو فقط بسبب رداءتها بل لعدم إرسال نصوصها مسبقاً وقبل التصوير إلى تلك المحطات الأجنبية الناطقة بالعربية في الخليج العربي والحصول على الأموال اللازمة لإنتاجها في سورية لقاء عروضها الأولى الحصرية الرمضانية. إن مسلسلات جيدة من حيث المضمون والشكل والإنتاج والإخراج مثل «على حافة الهاوية» و»الانتظار» و»زمن العار» و»عصي الدمع» و»فسحة سماوية» لم تلق لدى تلك الشاشات رواجاً واهتماماً كما فعلت أعمال رديئة مثل «باب الحارة» أو « أهل الراية» أو» تخت شرقي» و»صبايا» أو «شتاء ساخن» أو «تحت المداس»، حتى أن تلك الفضائيات والمحطات الممولة صارت تطلب أجزاء جديدة من بعض هذه الأعمال أو ما يشابهها. ونحن متأكدون الآن تقريباً أن الأجزاء الممطوطة أو المشابهة لن تكون أفضل من سابقتها بل ربما أسوأ. ولا ندري في الحقيقة أي سبب مقنع لهجرة نجومنا في التمثيل والإخراج إلى مصر الشقيقة غير الأسباب المادية المتعلقة بالأجور التي ظلت مرتفعة جداً بالنسبة للمنتج السوري ورخيصة جداً بالنسبة للمنتج المصري – السعودي وظلت للأسف مغرية لنجومنا، ونحن ننصحهم بمقاومة هذا الإغراء المادي والإخلاص للدراما السورية التي جعلتهم نجوماً ليس في سورية فحسب بل في الوطن العربي والعالم، ونذكرهم بأن الفنان الذي يرقى إلى مستوى الشهرة العالمية يفعل ذلك من قلب خصوصيته المحلية وليس من انجرافه خارج حدود وطنه الذي لم يقصّر قط في تكريمه ومحبته. ولم يسبق أن خرج فنان سوري، سواء أكان موسيقياً أو رساماً تشكيلياً أو شاعراً عن خصوصيته الإبداعية في سورية ومن أجلها أو أنه تردد لحظة، حتى في حال الاغتراب، عن الوفاء لأهله وشعبه وأمته ونضالها، من غير أن يعني ذلك التوقف عن التعاون مع البلدان العربية والصديقة في إنتاجات درامية مشتركة فهذه مسألة مختلفة، ولنقل أخيراً، إذا كانت اللهجة العامية السورية ضرورية للعمل الدرامي السوري وأساساً لمصداقية واقع شخوصه وأحداثه، توجب علينا الاهتمام بها وتثقيفها وتقريبها ما أمكن من العربية الفصحى من غير أن نستبدلها بلهجة أخرى ولو كانت لهجة عربية تبدو حسب خبراتنا هجينة وناشزة وليتكلم كل عربي بلهجته المحلية فهذا سيؤدي مع الأيام إلى التقارب بين هذه اللهجات وفهمها المشترك والتحدث بها عند اللزوم وبألسنة الجميع. أما إذا لم تكن اللهجة العامية ضرورية للعمل الدرامي من حيث الواقعية فلنجرب منذ الآن أن نقدم أعمالنا بالعربية الفصحى البسيطة وهذه تجربة تستحق الاهتمام وقد نجحت في أوروبا والهند وروسيا، فأنت في هذه البلدان لا تسمع اللهجات المحلية الدارجة في أي عمل درامي إلا نادراً وفي حالات الكوميديا الساخرة المكتوبة أصلاً بالعامية، كما نجحت اللغة العربية الفصحى في الأعمال التاريخية والأدبية والخيالية وفي المسلسلات الأجنبية المدبلجة إلى العربية ولم يكن ثمة حاجة إلى استبدالها مؤخراً باللهجة السورية الدارجة، كما فعلت إحدى محطات الإنتاج التجارية الأجنبية، حيث دبلجت بوساطة شركات في دمشق مسلسلات تركية إلى اللهجة السورية فأساءت إلى الفنانين السوريين والأتراك معاً وابتعدت بأدائهم عن الخصوصية والواقعية المطلوبة في أي عمل درامي، ولا ننسى أن رداءة الشكل تسيء دوماً إلى مصداقية المضمون وننصح بالعودة إلى اللغة العربية الفصحى السليمة في دبلجة الأعمال الدرامية الأجنبية مع تفضيل الأعمال التركية والإيرانية على غيرها القادمة من وراء البحار. |
|