|
كتب الآخر المفتاح .. اللغز .. الهدف .. الذريعة .. الغاية .. نقطة انطلاق و خط نهاية .. جوهر وجود .. و ذروة عدم . باختصار .. إنه مرآتك .. ما أنت عليه بصورة أخرى .. تخالفك و توافقك بالآن ذاته . و لمن ضيّع ( أناه ) .. و تماهت حدودها و محدّداتها في ثنايا روح ( الآخر ) .. تبوح له فرانسواز كلواريك بنصيحة ( السفر ) .. المضي في رحلة مكانية.. و لعلها زمانية أيضاً . نصيحة كلواريك تأتي عن تجربة و خبرة .. عن معاينات و مشاهدات عاشتها خلال خمس عشرة زيارة قامت بها إلى سورية و لتكون محصلة هذه الزيارات خمسة كتب منها رواية ( الخان ) التي تسرد فيها حكاية رجل .. يسعى هروباً من حب مضنٍ .. يلجأ إلى السفر .. يمضي من الغرب فإذا به يكتشف الشرق . يأتي إلى دمشق و منها إلى حلب .. يصف مشاهدات .. و يعيد تأملات .. يبصر .. يكتشف .. يتمعّن . بطل الحكاية جان باتيست ( منذ أن وطأت قدماه الأراضي السورية ...تصالح مع العالم .. بدّل رغبته دون أن يرف له جفن .. تعلم من جديد كيف يعيش و كيف يشعر و كيف يرى . كان الضوء المبهر في بعض الأحيان ، يؤذي عينيه المتعبتين لكنه لا يثنيه عن تأمله . تعجز الكلمة عن وصف جمال اللحظة ، و القوة المنبعثة من الأمكنة . لقد ألقى بنفسه في كون خالد ، يغوص في جذور العالم ) . في قلب دمشق .. مشى .. و أمام روعة اللحظة تساءل ( هل يمكن للجمال أن يُشفي من كل شيء .. ؟ ) . على لسان البطل .. يأتي التساؤل .. و لعل المؤلّفة كلواريك تورده على سبيل الإجابة التي تؤكّد أهمية الجمال المدهش .. المحير .. الساحر .. و الضروري كعلاج أكثر من مخلص . من كتبت ( سورية ، رحلة في الذات ) لن تبتعد في عملها هذا ( الخان ) عن معنى الرحلة التي تقصد .. إنها رحلة مزدوجة .. ذات خطين متواجهين .. أحدهما نحو الخارج و الآخر نحو الداخل . رحلة جان باتيست لم تكن مكانية خارجية ظاهرة بمقدار ما كانت داخلية ذاتية .. إنها رحلة الإنسان في ( جوهر ذاته ) .. و هو ما تؤكّد عليه كلواريك. و ليس التنقل المكاني إلا وسيلة للتنقيب المتأني .. المتأمل في ( الأنا ) . في ( الخان ) تفرّغ الروائية ما حملته ذاكرتها .. و قبلها إحساسها .. عن دمشق .. تتغزل بهذه المدينة .. تنثر حبها .. إعجابها .. دهشتها . بفيض من سحر و انجذاب .. لا تخفي حبها و انحيازها إلى الشرق الذي يتبدّى أمامها من خلال سورية بمدينتيها ( دمشق و حلب ) . دمشق كما يراها ( مكان للعبور من الموت إلى الحياة .. من الجنون إلى السكينة ) .. و هنا تتمظهر ثنائية ( الأنا و الآخر ) لتأخذ هيئة ( شرق و غرب ) .. و هو ما تحاول كلواريك التعبير عنه عبر توصيفها لحالة التبادل الذي كان بين الطرفين منذ عام 1822م . على هذا النحو يبدو المنفذ الذي تجيد الكاتبة استغلاله لترشق القارئ بسيل من المعلومات التاريخية .. مثل ذكر ( توقيع أول معاهدة عام 1536م بين فرانسوا الأول و سليمان العظيم .. و هي تسمح للدبلوماسيين الفرنسيين بالدرجة الأولى ، بإقامة دائمة على أراضي الإمبراطورية العثمانية .. و بقرار من الباب العالي ، و لأسباب تتعلق بضبط الأمن و التفتيش، توجب على الأوروبيين أن يعيشوا في خانات..).. و بالتالي نلمح تلك الرمزية التي قصدتها الروائية من تسمية كتابها ( الخان) .. فهو المكان الذي سكنه الفرنسيون .. إلا أن مكانه الشرق .. إذا هو نقطة الوصل بين الجانبين . من الرواية .. ( أينما كنت يا حبيبتي و مهما كانت الحياة التي تعيشينها ، يجب أن أحدثك عن الطريق الذي مشيته . ليس الطريق بمعناه الحقيقي ، و إنما الطريق الآخر الذي يمر في أعماق فكري و نفسي . لم أتخلَ عنك يوماً ، لم يخرج من صدري نفس أو يدخل إليه ، دون أن يكون حضورك جلياً في حياتي . عبرت آلاف الكيلومترات ، عشت سنوات من الألم ، كي أجتاز فقط مسافة داخلية متناهية في الصغر ، حققت تقدماً بسيطاً ، لكنني اليوم ، و لأول مرة ، قبلت الاستمرار في حب امرأة أكرهها أيضاً ... و ها أنا ذا لا أملك الوسائل للمقاومة . سأتوقف إذاً عن الرغبة بنسيانك ، و الرغبة بقتلك . سأتأقلم مع وجودك في ذاتي ، إنما دون أن تكوني معي ... هذا المساء أستطيع أن أقول لك : أحبك .. لأنني لم أعد أتوقع شيئاً منك ، و لا أتوقع شيئاً مني . قبلت في النهاية أن يبقى هذا الحب المجنون في قلبي .. توقفت عن طرده .. أفسحت له مكاناً . ببساطة أظن أن كلاً منا أحب الآخر ، بعنف شديد إلى حد لم يمكنه من أن يستمر .. و لا من أن ينتهي .. ) . الكتاب : الخان . - المؤلفة :فرانسواز كلواريك . - ترجمة : غادة الأشقر . - الناشر : الهيئة العامة السورية للكتاب 2011 م . |
|